قد تقضي ساعاتٍ غيرَ قليلةٍ في متابعةِ دروسٍ شرعيَّةٍ تتناولُ أسماءَ اللهِ عـزَّ وجلَّ وصفاتِه، وتصبِّرُ نفسَكَ على متابعةِ مجلسِ علمٍ يتناولُ المجالَ ذاتَه، وهذا جيِّدٌ ومطلوبٌ على المستوى النَّظريِّ، بل ويحثُّ عليهِ أهلُ العلمِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، بَيْدَ أنَّ هناكَ مساحةً من الألمِ يُرزَقُها العبدُ تسمحُ له بتذوُّقِ المعنى بطريقةٍ فريدةٍ تحفِرُ في النَّفسِ أيّامًا وسنواتٍ، هي مساحةٌ عامَّةٌ مِن جهةٍ وخاصَّةٌ من جهةٍ؛ عامَّةٌ من جهةِ أنَّ الألمَ لا مفرَّ منه في الدُّنيا ولا يخلُ عبدٌ مِنَ ابتلاءٍ، وخاصَّةً من جهةِ ما يتذوّقُه العبدُ مِن معاني العبوديَّةِ والشعورِ بمعيَّةِ اللهِ جلَّ جلالُه في سياقِه الزَّمنيِّ الخاصِّ بهِ.
ربَّما يمرُّ طالبُ العلمِ كثيرًا على اسمِ اللهِ (الستير) في المحاضراتِ والكتبِ والشُّروحاتِ ويحصّلُ منها معنًى معيَّنًا في ذهنِه، لكنْ تخيَّل معي ذلكَ الطالبَ في موقفِ ذلٍّ وشدَّةٍ لأجلِ معصيَّةٍ ظهرَتْ منه للأقاربِ أوِ الأصحابِ، مجتمعينَ حولَه وقد قاربَ سترُه أن يُكشَفَ، ولحمُ وجهِهِ أن يتساقطَ خجلًا لهولِ الموقفِ والصَّغَارِ الَّذي يغرَقُ فيه، وفي سرِّه يدعو اللهَ لئِن سترَه هذه المرَّةَ ليعودنَّ حامدًا عابدًا أبدَ الدَّهرِ.
تخيَّلْ معيَ اللَّحظةَ الَّتي تُستجابُ فيها دعوتُه، لِتُنتَزَعَ هيبتُهُ مِن بينِ الأقدامِ وتعلو في عزٍّ وعنفوانٍ، ويتمُّ اللهُ النِّعمةَ بالسَّترِ والجبرِ على عبدِه الضَّعيفِ، تراه سينسى معنى اسمِ اللهِ السَّاترِ مستقبلًا!، بل ربَّما سيبكي على تقصيرِه كثيرًا مستشعِرًا فضلَ الخالقِ و مِنّتَهُ على المخلوقِ الفقيرِ المسكينِ.
الإنسانُ ينسى؛ لكنَّ الألمَ يعطي لِلَذّةِ المعنى في الوجدانِ مدَّةَ صلاحيَّةٍ أطولَ .
كثيرٌ منَّا العبدُ الذي أُخيفَ في اللهِ يومًا وربَّما كان بينَه وبينَ الموتِ دقائقُ معدودةٌ، واقفًا بينَ يدي مولاهُ الجليلِ، قليلَ الحيلةِ، متجرِّدًا مِنَ الأهلِ والولدِ والمالِ، حتَّى إذا ما ناجى ربَّه بخبيئةٍ له عندَه؛ تفتّقَ عمُرُهُ من جديدٍ وأُحبطَتِ الخُططُ، وزالتِ الموانعُ، وصَفَا العيشُ له آمنًا مطمئنًا، أتراهُ سينسى أثرَ المعيَّةِ تلكَ!.
جرعاتُ الألمِ هذهِ بالذَّاتِ؛ هي تطبيقٌ عمليٌّ للدَّرسِ النَّظريِّ الَّذي يسعى الإنسانُ لتحصيلِه في حقلِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه والعلمِ به، لَموقفٌ واحدٌ من تلك المواقفِ أبلغُ من عشْرِ دروسٍ تمرُّ على الأذُنِ ولا تحطُّ رحالُها في القلبِ طويلًا. لاحِظْ معي دعاءَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهوَ يدعو: “ومِنَ اليقينِ ما تهوّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا..”، إذًا هي عطيَّةٌ يُرزَقُها العبدُ الذي امتلأَ قلبُهُ باليقينِ وحُسنِ الظَّنِّ باللهِ الكريمِ، وربَّما كانت رسالةً للثَّباتِ والحثِّ على التزامِ طريقِ الهدايةِ، أو منّةً منَ الرَّبِّ الجليلِ على العبدِ المسكينِ اللَّائِذِ بمولاهُ دائمًا وأبدًا.
النّبوّةُ رحمةُ الخالقِ بعبادِه، فالعبدُ محتاجٌ أنْ يعرفَ ربَّه جيِّدًا، كيف يدعوه وبأيِّ شيءٍ يدعوهُ، بل ما أفضلُ ما يُدعى به الخالقُ جلَّ جلالُه، وما يحبُّ اللهُ أنْ يُدعى به، لذلكَ كانَ مِنْ أهميَّةِ وجودِ النُّبوَّةِ وجودُ قدوةٌ يتمَثَّلُها الإنسانُ ما استطاعَ ويتعلَّمُ منها، وهنا تبرزُ أهميَّةُ وضرورةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ في القيامِ بهذا الدَّورِ، و للأستاذِ أحمدَ السَّيِّدِ عبارةٌ نفيسةٌ في إحدى محاضراتِه يقولُ فيها: “إنَّ منكِرَ السُّنَّةِ قد أَغلقَ على نفسِه بابًا مِن أبوابِ المواساةِ؛ وهو السَّلوى بالقدوةِ” .
لم تصْفُ الدُّنيا لأحدٍ، ولن يكفَّ العبدُ عن كُرهِ الألمِ في دنياه، بَيْدَ أنَّ تلك الحقائقَ لا تستطيعُ أنْ تُخفيَ أنّ بعضَ الألمِ ضرورةٌ رغمَ كراهتِنا له، وقد يظلِمُ العبدُ نفسَه وهو في عينِ عاصفتِه لضعفٍ لم يقِفْ عندَه يومًا بالتَّزكيةِ أوِ الرِّعايةِ، يعميه الوجعُ والجهلُ بنفسِه وربِّهِ عن إبصارِ الحكمةِ، لا يستطيعُ أن يرجعَ خطوةً إلى الخلفِ ليبصرَ الصُّورةَ كاملةً مِنْ مسافةٍ آمنةٍ بينَه وبينَ ابتلائِه، وما يزالُ يقتربُ مِن بقعةٍ في اللَّوحةِ حتَّى ليظنَّ أنَّ عالمَه مقتصرٌ على هذهِ البقعةِ فقط، لذلك كان اليقينُ باللهِ والعلمُ به سُترةَ النَّجاةِ في مواقفَ كتلك.
الكاتب: هبة عبدالواحد الحسين
المراجعة: مها السفياني
التدقيق اللغوي: فاطمة الزعبي
التصميم: إيمان زيدان