كنت في نقاش مع اثنين من المبشرين لـ (جاهوفا) في هولندا، وتكلَّمْنا في أصول الدين، والفَرْقِ بين أدلَّة الإسلام وأدلَّة النَّصرانيَّة، وفي نهاية إحدى النقاشات بعد أن عرضتُ لهم الفرقَ بين موثوقيَّة نقل الدين الإسلامي والدين النَّصراني، قام أحدهم وقال لي: “اعلم أنَّ بعد هذا النقاش كله؛ يرجع الأمر إلى …” ثم كتب على الورقة التي بيننا بخط كبير (FAITH) ثم شد تحتها خطين لتوكيدها.
لم يكن هذا الموقفُ غريبًا بالنسبةِ لي؛ فإنِّي قابلت أناسًا كثيرين من بلاد الغرب كانوا يبررون موقفهم العقدي بأنَّه إيمانٌ منهم، لا يحتاج إلى تبريرٍ مدلل، بل ويطبِّقون علينا نحن نفس النظرة، فلا يطلبون منَّا أدلةً، بل ينظرون إلينا بنظرة المؤمنين، بمعنى الإيمان الخالي من التبرير المدلل.
والإيمان – بهذا المعنى – ليس مسألةً اصطلاحيَّةً مَحْضَةً، بل إنَّ تعريف الإيمان في القواميس الغربيَّة أصبح يُقيَّد بعدم وجود الدليل المثبت أو المبرر؛ حيث يمكن أن يُترجَمَ الإيمان إلى الإنجليزية بـ “faith”، أو “belief “، وإليكم بعض التعريفات للكلمتين من القواميس.
[faith] strong belief in the doctrines of a religion, based on spiritual conviction rather than proof [1]
الاعتقاد القوي في عقائد الأديان، بناءً على اعتقاد روحي بدلاً من الدليل.
firm belief in something for which there is no proof [2]
الاعتقاد الجازم بشيءٍ ما، لا دليل عليه.
[Belief] an acceptance that something exists or is true, especially one without proof [3]
قبول وجود شيء ما أو اعتقاد أنَّه حقٌّ، خاصَّةً لو بلا دليل.
confidence in the truth or existence of something not immediately susceptible to rigorous proof [4]
الثقة في أن شيئًا ما حقٌّ أو موجود، بلا إمكانيَّة الاستدلال الدقيق عليه.
فهذا هو المعنى الغربي للإيمان والاعتقاد الديني، لنأتي للتعريف الإسلامي لمصطلح الاعتقاد والإيمان.
الإيمان لغةً:
هو التصديق [5].
والاعتقاد: هو عقد القلب على الشيء بمعنى تصديقه والتسليم لصحَّته [6].
وفي الاصطلاح الشرعي، يقال: إن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، ولكن: هل تصديق القلب هذا هو هو تصديق النصارى بدينهم؟ أي” تصديق بلا دليلٍ على صحَّة المُصدَّق به؟
نقول: إنَّ المفهوم الإسلاميَّ للاعتقاد أبعدُ ما يكون عن هذا التعريف الغربي، لو ترجمنا التعريف الغربي للإيمان إلى العربيَّة لترجمناه إلى الظَّن، أو الخَرْص[7]، أو التَّخمين، أو التَّنجيم، أو الرِّهَان.
فإنَّ الاعتقاد بشيءٍ ما بلا وجود دليلٍ قاطعٍ أو ظنٍّ راجحٍ= نوعٌ من العبث في أمور الدنيا، كالتَّخمين والرِّهان، فضلاً عن أمور الدِّين الذي ينبني عليه رؤيةٌ كونيَّةٌ كاملةٌ قد تؤدِّي إلى نعيمٍ سرمديّ، أو عذابٍ أبديّ.
إنَّ الإيمان في الإسلام هو أقرب إلى انقيادٍ عمليٍّ لعلمٍ ما، وأقرب ما يناسب جزءًا من تعريف الإيمان الإسلامي في الغرب هو كلمة العلم (knowledge)؛ فإنَّ العلم عند فلاسفة الغرب كان يُعرَّفُ – لمدَّةٍ طويلةٍ – بأنَّه (justified true belief)، أو: إيمان صحيح مبرر، وبغض النَّظر عن جدل إمكانيَّة تعريف العلم؛ إلا أنَّه يُقرِّب الفكرة التي نحاول إيصالها، وهي أنَّ الإيمان في الإسلام ليس قفزةً روحيَّةً، بل تصديقٌ بقضيَّةٍ لنا المبرِّر أو الدعم الدلالي على صحَّتِها، ومِن ثمَّ نعلمُها.
ولكنَّ التعريف السابق لم يكن كافيًا في تعريف العلم؛ فإنَّ المرء قد يصدق شيئًا ما ويكون حقًّا، لكن للأسباب أو الدلائل أو التبريرات الفاسدة أو الوهميَّة، فلا يُعَدُّ علمًا، كما ألمح لذلك الفيلسوف [8] gettier، فأراد الفلاسفة إلى وضع قيدٍ آخرَ أو تغيير قيد التبرير إلي السببيَّة [9] أو الاعتماديَّة [10]؛ حتى لا يدخل تحت العلم تصديق بالحق عبر الصُّدفة المحضَة.
ويمكن أن يقال: إنَّ هذا القيد الأخير ليس لازمًا لنا؛ فإنَّ طريقة الوصول إلى الحق والعلم به ليست مركزَ الدين ومحوره وهدفه، غير أنَّ الوصول للحق له طرق متعدِّدة، ولا يبطل صحة اعتقاد النَّاس إن كانت الدلائل التي بنوا عليها إيمانهم ليست بالصَّحيحة ضرورةً؛ فإنَّ الإيمان بأصول الإسلام وموافقة تعاليمه كافية في دخول الإسلام، وهذا من رحمة الله بعباده، فليس الأمر كما زعم بعض المتكلمين بأنَّ طريق معرفة الله ونبوة نبيه ﷺ محصورةٌ في دليل معيَّن.
ويجب التنبيه إلى أنَّ التعريفَ الإسلاميَّ للإيمان ليس محصورًا فيما مضى، بأن يقال: إن كل مسلم يجب أن يكون له مبرر دلالي معيَّن لإيمانه، لكن ما ندَّعيه هو أنَّه من الممكن أن يستدل المسلم بالأدلة والبراهين على صحة موقفه العَقَدي، على عكس التعريف الغربي بأنَّ الإيمانَ الدينيَّ خَالٍ من إمكانيَّة الاستدلال عليه أصلاً، فيدخل تحت مظلة الإسلام أيضًا مَن بَنَى إيمانَه على التَّقليد، وكونه لم يسلك طريق البراهين والأدلة لا يُخرِجُه عن كونه مسلمًا صحيح الإيمان.
مع ذلك؛ فإنني أستبعد إمكان الجزم بشيءٍ ما بلا أيِّ تبريرٍ، البتَّةَ، ويدخل تحت التبرير هنا كل العوامل النفسية والأدلة – وإن كانت نسبيَّة (subjective) – فالتخمين المحض لا يمكن إلا أن يكون ظنيًّا، ولن يصل إلى الجزم دون دلالة تدل على صحته، ولو دلالة راجحة غير قطعيَّة، وهذا أحد الفروق المهمة بين الإيمان الغربي والإسلامي؛ فإنَّ أحد شروط الشهادة هي الجزم بها، لا الظن، وسنأتي إلى كيفيَّة التفرقة بينهما. أمَّا المؤمن الغربي الذي الأصل عنده التسليم بلا دليل= فلا يكون الجزم عنده من شروط الإيمان؛ إذ كيف يجزم بشيء لا دليل عليه البتة؟! فحتى المسلم الذي بنى إيمانه على التقليد لا يخلو أن يكون حصل له من الدلالات النفسيَّة والمعاني الفِطْرِيَّة التي أوصلتْهُ إلى التمسك بدينه والجزم بصحَّته.
إضافةً إلى سعة مصطلح الإيمان في الإسلام، وإمكانيَّة الاستدلال على صحَّة محتوياته: بدءًا من أدلة وجود الله، ووصولاً إلى دلائل النبوة والبعث= فإنَّ الإسلام أعطى معيارًا وقيدًا زائدًا ليمكن التفرقة من خلاله بين المؤمن وغير المؤمن، ألا وهو العمل، فالعلم بالحق ليس كافيًا ليُسمّى المرءُ مؤمنًا، قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:١٤]، فيقين النفس دون الانقياد والاتباع لِما عُلِم لا يسمى إيمانًا.
كما ذكرنا آنفًا أن الإيمان في الإسلام مُرَكَّبٌ من تصديقٍ وقول وعمل. ومعيار العمل هو من المعايير الواقعيَّة العقليَّة والشرعيَّة، فإنَّ الإنسان يستحيل ألا يكون له دافعٌ ما في كل أفعاله؛ فالمسافر له دافعٌ، والعامل له دافعٌ، والمتعلم له دافعٌ، … إلخ، ويستحيل أن يفعل الإنسان شيئًا ما بلا دافع، ولهذا يقال في علم النفس للمُتَّصف بالخمول وكثرة النوم “عنده نقص في الدافعيَّة”، أي: لا دافع بداخله يحثُّه على الحركة والعمل، فهناك ارتباطٌ وثيقٌ بين دوافع الإنسان الداخليَّة وأفعاله الخارجيَّة، كما يقول الشاعر ممثلاً هذه العلاقة بين المحب والمحبوب:
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
فكذلك في مسألة الإيمان، من المحال أن يكون المرء مؤمنًا حقًّا ولا يدفعه إيمانُه إلى العمل، مطيعًا أوامر الدين، فمَنْ يَدَّعِي الإيمان ولا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يتلو القرآن لسنوات عديدة؛ فكيف له ادَّعاءُ الإيمان؟!
والعكسٌ صحيحٌ كذلك؛ فإنَّ مَنْ يصلي ويصومُ ويُزكِّي ويتلو القرآن في السر والعلن غيرَ قاصدٍ للمراء، يستحيل أن يكون عملُه نابعًا عن غير إيمان في القلب، ويتفاوت هذا الإيمان في القلب كما تتفاوت السماوات والأرض، فالإيمان في الإسلام يزيد وينقص، ويمكن أن يقال إنه (non binary)، أي: غير ثنائيٍّ، أو ليس كآلة الحاسب؛ إمَّا لعدم الإيمان، وإمَّا للإيمان، بل كالنظر يقوى ويضعف، والأدلة الشرعيَّة على هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا، فليُراجَع (كتاب الإيمان) للإمام البخاري في بداية صحيحِه.
ختامًا نقول: يتضح لنا – وفق ما مرَّ معنا – أنَّ الإيمان في الإسلام له مميزاتٌ لا يملكها ما يُسمَّى بـ “الإيمان الغربي”، من حيث: التعريف، وإمكان الاستدلال عليه، وسعة مفهومه، ورَحَابَته، وواقعيَّته.
والله الموفق.
[1] Oxford English Dictionary.
[2] Definition of Faith by Merriam-Webster.
[3] Oxford English Dictionary.
[4] www.dictionary.com
[5] تهذيب اللغة، الأزهري، (١٥/ ٣٦٨).
[6] سواءً أكان مع يقين أو غلبة ظنّ، انظر: “العقود الذهبية”، د. سلطان العميري، .(١/٢١)
[7] خَرَصَ الرَّجُلُ: قال بالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، حَدَسَ.
[8] Is Justified True Belief Knowledge?, Edmund L. Gettier,1963.
[9] Causal theory of knowing.
[10] Reliabilism.
الكاتب: أحمد صديق الوكيل
المراجعة: كرم شامية
التدقيق اللغوي: عثمان الهواري
التصميم: ندى الأشرم