الحمدُ للهِ وكفى والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المصطفى
وبعد ،،
إنَّ الكلامَ عنْ أدلةِ النبوةِ هوَ تناولٌ لبابٍ عظيمٍ منْ أبوابِ الإسلامِ ، فهوَ الشِّقُ الثاني منَ الرُّكنِ الأوَّلِ للإسلامِ ، فإنَّ المسلمَ حينَ يؤمنُ بنبوةِ النبيِّ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وبصحَّةِ الإسلامِ فهوَ يؤمنُ بعقيدةٍ راسخةًٍ رسوخَ الجبالِ الرواسي ، ورسوُّها مصدرُه أنَّها عقيدةٌ قامتْ على العلمِ والدَّليلِ والبرهانِ ، إنَّ حالَه ليسَ كحالِ أولئكَ الذينَ قالُوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}[سورة الزخرف : ٢٣]، فهؤلاءِ وأضرابُهم حجبُوا عقولَهم عنِ النظرِ في الحقِّ ودلائلِ صدقِه ، و صمُّوا آذانَهم عنْ سماعِه ، واكتَفَوا بالقعودِ حيثُ تاهتْ عقولُ آبائِهم الأوَّلِين، فأنكرَ القرآنُ عليهمْ هذا الجمودَ ، وقبَّحَه ، ودعَاهُم لإعمالِ عقولِهم والإفادةِ منْهَا، فقالَ: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }[سورة يونس : ١٦] [1]
إنَّ أدلةَ نبوَّةِ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هي براهينٌ على صحةِ الدِّينِ الخاتمِ الذي دعَا إليه ، وهيَ أدلةٌ كثيرةٌ متنوعةٌ يُمكنُ لِمَنْ أرادَ الاطلاعَ عليها بالتفصيلِ مراجعةُ كتبِ أهلِ العلمِ التي عُنيتْ بذكرِها[2].
وسنُبيِّنُ في السطورِ القادمةِ بعضَ خصائصِ تلكَ الأدلَّةِ وبيانَ الإجابةِ على سؤالِ (ما هوَ أفضلُ دليلٍ على النُّبوةِ ؟ ).
لِعِظَمِ مقامِ النبوةِ تعددتِ الطرقُ الموصلةُ لإثباتِه ، فلا شكَّ أنَّ معرفةَ اللهِ والإيمانَ بِه وعبادتَه ومعرفةَ رسلِه وطاعتَه يحتاجُها كلُّ مكلَّفٍ ، ومِنْ حكمةِ اللهِ جلَّ وعلَا أنَّه كلَّمَا كانَ الناسُ إلى معرفةِ شيءٍ أحوجَ ، فإنَّه سبحانَه يجعلُ الوصولَ إليه سهلًا ميسورًا غيرَ ذي عوجٍ.
وحينَ كانتْ نبوةُ النبيِّ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- آخرَ النبواتِ وخاتمتَها اتصَفَت الأدلةُ الدَّالةُ عليها بصفاتٍ تجعلُها متميِّزةً عنْ غيرِها، وظاهرةً لكلِّ مَنْ نظرَ فيها مِمَّنْ تأخَّرَ عَنْها في الزمانِ.
ومِنْ أهمِّ خصائصِ دلائلِ نبوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
- الكثرةُ : فأدلةُ نبوتِه تفوقُ مِنْ حيثُ الكثرةِ جميعَ دلائلِ النبواتِ السابقةِ عليه.
- التَّنوعُ : فأدلةُ نبوتِه لَمْ تكنْ في مجالٍ واحدٍ ، وإنَّمَا كانتْ في مجالاتٍ متعددةٍ بعضُها متعلقٌ بالأفلاكِ السَّماويَّةِ، وبعضُها بالحوادثِ الأرضيَّةِ ، وبعضُها حسيٌّ وبعضُها معنويٌّ ، وبعضُها وقعَ وانتهَى وبعضُها ما زالَ باقيًا.
- الحفظُ : فمَعَ كثرةِ الدلائلِ فقدْ حُفِظتْ ونُقِلتْ إليْنَا بطرقٍ ثابتةٍ صحيحةٍ، معَ تفاوتٍ في درجةِ نقلِها، فبعضُها بلغَ التواترَ، وما لمْ يَثبتْ مِنها فُقِدَ بينَ العلماءِ حالُه.
- الظهورُ والضخامةُ : فهي مِنْ حيثُ حقيقتِها لا تخفَى على المُطَالِعِ لَها بأدنَى نظرٍ، ولا يحتاجُ إلى عناءٍ وتفكُّرٍ كالتحدِي بالقرآنِ وانشقاقِالقمرِ، ونُبُوعِ الماءِ وتكْثيرِ الطَّعامِ.[3]
تتَّصفُ العَلاقةُ بينَ دلائلِ النبوةِ بالتكاملِ فأدلةُ النبوةِ أنواعٌ متعددةٌ مِنْها:
المعجزاتُ والأخبارُ المغيَّباتُ والكمالُ الشَّخصيُّ والأخلاقيُّ والإقدامُ على التحدي بالقرآنِ ومعَ تعدُّدِ تلكَ الأنواعِ نجدُ أنَّ كلَّ نوعٍ على حدةٍ يُوجدُ له أفرادٌ كثيرةٌ وأدلةٌ متنوعةٌ مجموعُها يُثْبتُ هذا النوعَ، فمثلًا نوعُ المعجزاتِ نجدُ له أفرادًا كثيرةً مِنْها : انشقاقَُ القمرِ وتكثيرُ الطعامِ ونبعُ الماءِ بينَ يديهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ… كلُّ ذلكَ في نوعٍ واحدٍ وهكذا على نفسِ المنوالِ نجدُ باقِي الأنواعِ كلُّ واحدٍ مِنها له شواهدُ متعددةٌ مكونةٌ من أدلةٍ منفردةٍ.
فعنْدَما نقولُ إنَّ أدلةَ النبوةِ متكاملةٌ يكونُ هذا التكاملُ على درجتينِ، الدرجةُ الأولى: بينَ أفرادِ النوعِ الواحدِ، فنجدُ تكاملًا بينَ تلكَ الأدلةِ المنفردةِ التي تشهدُ لهذا النوعِ، حتى يجدَ الناظرُ نفسَه مضطرًا للتَّسليمِ بصحتِه.
ثُمَّ في الدرجةِ الثانيةِ نجدُ التكاملَ بينَ تلكَ الأنواعِ المختلفةِ، ما يشهدُ على أنَّ مَنِ اجتمعتْ له كلُّ تلكَ الدلائلِ مثلَ المعجزاتِ والكمالِ الشخصيِّ والأخلاقيِّ والإعجازِ بالقرآنِ هوَ بحقٍ نبيٌ مرسلٌ مِنْ عنْدِ اللهِ وأنه صادقٌ في كلِّ ما يخبرُ به.
وتظهرُ أهمِّيةُ هذا التنوعِ في دلائلِ النبوةِ عندَ حوارِ المتشككينَ، فمَنْ شكَّكَ في شاهدٍ منفردٍ على أحدِ الأنواعِ نُتمِّمُ معنى ثبوتِ الدليلِ من بقيةِ الشواهدِ على الدليلِ نفسِه، وإذا طُعِنَ في النوعِ كلِّه، فيمكنُ إثباتُ النبوةِ من الأنواعِ الأخرى.
ولكنْ وجبَ التنبيهُ على أنَّ القولَ بضرورةِ التكاملِ بينَ أنواعِ الأدلةِ وأفرادِها لا يَعني أنَّ اليقينَ لا يتحققُ إلاَّ بالتكاملِ ، فقدْ يتحصَّلُ اليقينُ للإنسانِ بفردٍ واحدٍ من نوعٍ واحدٍ، وقدْ يتحصَّلُ بدليلٍ واحدٍ.
إنَّ اجتماعَ تلكَ الدلائلِ معَ بعضِها لا يُمكنُ أنْ يجعلَه الله تعالى وهوَ الحكيمُ العدْلُ في شخصٍ واحدٍ مدَّعٍ للنبوةِ فمدَّعي النبوةِ يدَّعي أنَّ اللهَ بعثَه فهوَ إمَّا في أسفلِ دركاتِ السفهِ والكذبِ والسوءِ ، أو فيِ أعلى درجاتِ الصدقِ والكمالِ الأخلاقيِّ،ِ فالتفريقُ بينَ هذينِ المتناقضينِ مِنْ أيسرِ الأمورِ.
فكوْنُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في قمةِ الكمالِ الأخلاقيِّ معَ التنوُّعِ في الدلالةِ على صدقِ نبوتِه، وكونُ اللهِ تعالى كاملًا في صفاتِه سبحانَه فلاَ يُمكنُ أنْ يجتمعَ ذلكَ كلُّه في شخصٍ ويكونَ كاذبًا، ثُمَّ يَمُدُّه أيضًا بالمعجزاتِ التي تدلُّ على صدقِه في دعوَاه.
ونعودُ لنجيبَ على سؤالِ (ما هوَ أفضلُ دليلٍ على النبوةِ ؟ ) فنقولُ إنَّ التفاضلَ بينَ أدلةِ النبوةِ يكونُ بالنسبةِ لاعتبارينِ :
- الأولُ : التفاضلُ الراجعُ لذاتِ الدليلِ.
- الثاني : التفاضلُ الراجعُ إلى تأثيرِ الدليلِ.
بالنسبةِ للاعتبارِ الأولِ فالإجابةُ بلاَ ريبٍ أنَّ القرآنَ الكريمَ هوَ أفضلُ الأدلةِ ؛ فالقرآنُ هوَ كلامُ اللهِ سبحانَه وهوَ المعجزةُ الباقيةُ إلى قيامِ الساعةِ فهوَ أصلُ الأدلةِ والبرهانِ الذي نستندُ إليه، وقدْ أشارَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ على تقديمِه على غيرِه في قولِه : (ما مِنَ الأنْبِياءِ نَبِيٌّ إلَّا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كانَ الذي أُوتِيتُ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ إلَيَّ، فأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تابِعًا يَومَ القِيامَةِ).[4].
أما بالنسبةِ للاعتبارِ الآخرِ وهوَ تأثيرُ الدليلِ ونجاعتُه في الدعوةِ إلى اللهِ أو عندَ إقامةِ الحجَّةِ على المخالفينَ فالأمرُ يختلفُ مِنْ شخصٍ لآخرٍ، فإنَّنا نجدُ من الناسِ مَنْ يصلُ لليقينِ بالنبوةِ بدليلِ الإعجازِ بالقرآنِ، وآخرَ بدليلِ المعجزاتِ، وثالثَ بدليلِ الإخبارِ بالغيوبِ الصادقةِ وهكذا.
وختامًا نذكرُ بعضَ الأمثلةِ التطبيقيةِ مِن قصصِ إسلامِ بعضِ الصحابةِ، ونحاولُ أنْ نتعرَّفَ على الدليلِ الذي أوصلَهُم إلى الإيمانِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
- ونبدأُ بصدِّيقِ الأمَّةِ أبي بكرٍِ -رضِيَ اللهُ عنه- فقدْ كانَ إسلامُه في أوَّلِ الدعوةِ، ولكنَّه أسلمَ بمجردِ أنْ عُرضَ عليه الإسلامُ ويبدُو مِن ذلكَ أنَّه أذْعَنَ لدليلِ الكمالِ الشخصيِّ والأخلاقيِّ لصاحبِ الدعوةِ -صلَّى الله عليه وسلم-، فقد كانَ الصدِّيقُ -رضِيَ اللهُ عنه- صاحبَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قبلَ الدعوةِ وأعرفَ الناسِ به وكانَ خبيرًا بحالِه فكانَ عندَه قناعَةٌ أنَّ مثلَه لا يكذبُ وأنَّ ما أخبرَ بهِ هوَ الصدقُ فكيفَ إذَا أُضِيفَ إلى ذلكَ جميلُ ما يدعُو إليهِ وهوَ التوحيدُ والأمرُ بالمكارمِ، ونجدُ شاهدَ ذلكَ فيمَا نقلَ ابنُ اسحاقَ في سيرتِه أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ:”مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَكَمَ عَنْهُ – أَيْ: ما تَلَبَّثَ – حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَلَا تَرَدَّدَ فِيهِ “.
- وهذا عُميرُ بنُ وهبٍ الجُمحيُّ الذي أسلمَ بعدَ أنْ شَهِدَ معجزةَ إخبارِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بأحدِ الأمورِ الغيبيةِ، ففي ذاتِ يومٍ اجتمعَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ» فَقَالَ وَهْبٌ: «لَوْلَا عِيَالِي وَدَيْنٌ عَلَيَّ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا الَّذِي أقْتُلُ مُحَمَّدًا» فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: «فَكَيْفَ تَصْنَعُ؟» فَقَالَ: «أَنَا رَجُلٌ جَوَّادٌ لَا أَلْحَقُ آتِيهِ فَأَغْتَرُّهُ ثُمَّ أَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ، فَأَلْحَقُ بِالْخَيْلِ وَلَا يَلْحَقُني أَحَدٌ» فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: «فَعِيالُكَ مَعَ عِيَالِي وَدَيْنُكَ عَلَيَّ. فَخَرَجَ يَشْحَذُ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَا يُرِيدُ إِلَّا قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا قدمَ المدينةَ رآه عمرُ بنُ الخطابِ فهالَه ذلكَ وشقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي رَأَيْتُ وَهْبًا فَرَابَنِي قُدُومُهُ ، وَهُوَ رَجُلٌ غَادِرٌ فَأَطِيفُوا نَبِيَّكُمْ ، فَأَطَافَ الْمُسْلِمُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ وَهْبٌ فَوَقَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنْعِمْ صَبَاحًا يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : قَدْ أَبْدَلَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَ : عَهْدِي بِكَ تُحَدِّثُ بِهَا وَأَنْتَ مُعْجَبٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَقْدَمَكَ ؟ قَالَ : جِئْتُ أَفْدِي أُسَارَاكُمْ ، قَالَ : مَا بَالُ السَّيْفِ ؟ قَالَ : أَمَا إِنَّا قَدْ حَمَلْنَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمْ نُفْلِحْ وَلَمْ نَنجَح ، قَالَ : فَمَا شَيْءٌ قُلْتَ لِصَفْوَانَ فِي الْحِجْرِ : لَوْلَا عِيَالِي وَدَيْنٌ عَلَيَّ لَكُنْتُ أَنَا الَّذِي أُقْتَلُ مُحَمَّدًا بِنَفْسِي فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ ، فَقَالَ وَهْبٌ هَاهْ ، كَيْفَ قُلْتَ : فَأَعَادَ عَلَيْهِ ، قَالَ وَهْبٌ : قَدْ كُنْتَ تُخْبِرُنَا خَبَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَنُكَذِّبُكَ فَأَرَاكَ تُخْبِرُ خَبَرَ أَهْلِ السَّمَاءِ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، هذا أمرٌ لم يحضرْه إلاًّ أنا وصفوانُ، فوَاللهِ ما أنبأكَ بِه إلاَّ اللهُ، فالحمدُ للهِ الذي هدانِي للإسلامِ. فقالَ الرسولُ لأصحابِه: فَقِّهوا أخَاكُم في الدينِ وأقْرِئُوه القرآنَ، وأطلقُوا لَه أسيرَه [5].
- ونجدُ في قصَّةِ إسلامِ الطُفيلِ بنِ عمروٍ الدوسيّ الطويلةِ قولَه: فعرضَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ الإسلامَ، وتلاَ عليَّ القرآنَ، فلَا واللهِ مَا سمعتُ قولاً قطْ أحسنَ مِنْه، ولاَ أمرًا أعدلَ مِنْه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادةَ الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ اللهِ إنِّي امرؤٌ مطاعٌ في قومِي وإنِّي راجعٌ إليهم فداعيِهم إلى الإسلامِ، فادعُ اللهَ أنْ يجعلَ لي آيةً تكونُ ليِ عونًا عليهم فيمَا أدعُوهم إليه، فقالَ: اللهمَّ اجعلْ لَه آيةً [6].
فقدْ استدلَّ على صحَّةِ الإسلامِ بدلالةِ ما يدعُو إليه الإسلامُ، وجماليةِ الدعوةِ والتشريعِ، وقدْ انضافَ إلى ذلكَ سماعُه القرآنَ وهوَ الرجلُ العربيُّ الحكيمُ الذي يستطيعُ أنْ يميِّزَ بلاغةَ القرآنِ بعدَ أنْ كانَ وضعَ قطنًا في أذنيْه حتى لا يسمعَ كلامَ النبيِّ كمَا أقنعَه كفارُ قريشِ.
- ونجدُ في قصةِ إسلامِ ضمادٍ الأزديِّ الكثيرَ مِنْ الفوائدِ، فعنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنه- أنَّ ضمادًا قَدُمَ مكةَ، وكانَ مِنْ أزدِ شنوءةٍ، وكانَ يرقي مِنْ هذه الريحِ (الجن)، فسَمعَ سفهاءَ مِنْ أهلِ مكةَ، يقولون: إنَّ محمدًا مجنونٌ، فقالَ: ( لو أنِّي رأيتُ هذا الرجلَ لعلَّ اللهَ يشفيَه على يديَّ، قالَ فلقيَه، فقالَ: يا محمدٌ إنِّي أرقِي مِن هذه الريحِ، وإنَّ اللهَ يشفِي على يديَّ مَنْ شاءَ، فهَلْ لكَ (أرقيك)؟، فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدهُ ونستعينُه، مَنْ يهدِه اللهُ فلاَ مُضلَّ لَه، ومَنْ يُضللْ فلاَ هاديَ لَه، وأشهدُ أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لاَ شريكَ لَه، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أمًّا بعد .. قال: فقالَ: أعِدْ عليَّ كلماتَك هؤلاءِ، فأعادَهنَّ عليه رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثَ مراتٍ، قالَ: فقالَ: لقدْ سمعتُ قولَ الكهنةِ، وقولَ السحرةِ، وقولَ الشعراءِ، فمَا سمعتُ مثلَ كلماتِك هؤلاءِ، ولقْد بلغنَ ناعوسَ البحرِ(أي وسطه)، قالَ: فقالَ: هاتْ يدَك أبايعُك على الإسلامِ، قالَ: فبايعَه، فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وعلى قومِك؟، قالَ: وعلى قومِي.”[7]
- فضمادٌ أسلمَ بمجردِ أنْ سمِعَ صدرَ خطبةِ الحاجةِ التي اشتملتْ على أصلِ الدينِ وقاعدتِه وهَوُ توحيدُ اللهِ -عز وجل-، ونفيُ الشريكِ عنه، وفيها ثناءُ العبدِ على اللهِ بما يستحقُه، واستعانتُه بربِّه ومولاَه، واستغفارُه من ذنوبِه، وفيها تفويضُ الأمرِ إلى اللهِ، والإيمانُ والإقرارُ بأنَّ الهدايةَ بيدِ اللهِ سبحانَه، فمَنْ شاءَ هدَاهُ، ومَنْ شاءَ أضلَه، وفيها ذكرُ الشهادتينِ، وهما مفتاحُ الدخولِ في الإسلامِ، ومفتاحُ الجِنانِ.
كمَا لا يخفَى أثرُ حِلمِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وجميلِ خلقِه في تأثُّرِ الرجلِ بدعوةِ الإسلامِ، فبعدَ أنْ عرضَ ضمادٌ على رسولِ لله -صلى الله عليه وسلم- معالجتَه من مرضِ الجنونِ ، وهذا موقفٌ يثيرُ الغضبَ ، لكنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- استقبلَ ذلكَ بحلمٍ وصبرٍ، فقد اتّسعَ حلمُه حتى جاوزَ العدلَ إلى الفضلِ معَ منْ أساءَ إليه وجَهِلَ عليه .
إنَّ ضمادًا -رضي الله عنه- لمَّا سمعَ منه صلى الله عليه وسلم خطبةََ الحاجةِ، ولمْ يسمعْ منْه أكثرَ من ذلكَ، قالَ : ” فمَا سمعتُ مثلَ كلماتِك هؤلاءِ”، معً أنَّه -رضى الله عنه-، سمعَ الكثيرَ منْ كلامِ أهلِ الشعرِ والبلاغةِ، ولكنَّه علمَ أنَّ هذا الكلامَ الذي سمعَه من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- له طابعٌ خاصٌ، يختلفُ تمامًا عمَّا اعتادَ عليه ، ولوْ أنَّ أحدًا مِنْ النَّاسِ تكلَّمَ بمثلِ هذا الكلامِ منْ قبلُ ، مَا حكمَ ضمادٌ بنبوةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
فمِنْ هذهِ الأمثلةِ نجدُ أنَّ أسبابَ إسلامِ الصحابةِ تتنوعُ بتنوعِ دلائلِ النبوةِ، وهذا مِنْ رحمةِ اللهِ -جل وعلا- بهذه الأمةِ أنْ جعلَ أدلةَ النبوةِ متنوعةً وفي مجالاتٍ متعددةٍ .
فاللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السماواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ أنتَ تحكمُ بينَ عبادِك فيما كانُوا فِيه يختلفون اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيه مِن الحقِّ بإذنِك إنَّك تهدِي مَنْ تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ .
[1] انظر مقدمةَ كتابِ دلائلِ النبوةِ للدكتور منقذ السقار.
[2] أرشحُ بابَ النبوةِ من كتابِ سابغات للأستاذ أحمد السيد فهو كتاب معاصر مناسب لجمهور القراء ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب أهل العلم المتقدمين مثل كتاب دلائل النبوة للبيهقي ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني.
[3] ملخصًا من كتاب ظاهرة نقد الدين د. سلطان العميري.
[4] أخرجه البخاري ومسلم.
[5] السيرة النبوية لابن هشام.
[6] السيرة النبوية لابن هشام والبداية والنهاية لابن كثير.
[7] رواه مسلم.
الكاتب: أحمد فوزي