هل جرّبت يومًا أن تنزع عن مجسّم أحد أبعاده مدّعيًا أنه ليس جزءًا أصيلًا منه؟ هل جرّبت أن تناديه حينها مجسّمًا وتنتظر منه آداء دوره بكامل كفاءته بعد أن سطّحته بنفسك؟
كذا يفعل من ينزع الطبيعة التربوية التعليمية عن الدعوة إلى سبيل الله مكتفيًا بدور التبليغ ثم ينتظر من العملية الدعوية أن تزهر براعيمها وتؤتي ثمارها. أيّها المحاور المبلّغ، وأيّها المتابع المعلِّم، وأيّها المهتم بشأن الدعوة، لنقف معًا على معنى الدعوة أولًا، ومن ثَمّ نخلص إلى تشريح جناحيّ طائر الدعوة اللذين متى سلِما معًا حلّق بعيدًا ومتى جُرِحَ أحدهما لم يحمله الآخر وكان مآله السقوط.
ما معنى الدعوة لغةً واصطلاحًا؟
الدعوة لغةً هي: الطلب والنداء.
يقال:
دعا بالشيء: أي طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء: أي حثه على قصده. فيقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدين، ويقال: دعاه إلى المذهب أي حثه على اعتقاده وساقه إليه. (1)
وقال الزمخشري: دعوت فلاناً وبفلان ناديته وصحت به. (2)
الدعوة اصطلاحًا:
تُعرَّف الدعوة اصطلاحًا على معنيين:
فهي إما تدل على الإسلام نفسه: ” لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ” (3)
أو على عملية تبليغ الإسلام ونشره، وهو المعنى الأوسع انتشارا واستخداما، وفي هذا ذكر الإمام ابن الجوزي –رحمه الله- عند تفسيره لآية سورة الرعد:
“أحدهما: أنها كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله. قاله عليّ وابن عباس والجمهور. فالمعنى: له من خَلقِه الدعوةُ الحق، فأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف اللفظين.
والثاني: أن الله عز وجل هو الحق، فمن دعاه دعا الحق. قاله الحسن.” (4)
من مدارس تعريفات الدعوة
تناول الكثير تعريف علم الدعوة، ولم تخرج التعريفات التي اطلعت عليها عن التعريف القرآني الجامع لدور أول داعية إلى الله في التاريخ، رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في قوله تعالى:”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” (5)
فهناك من عرَّف الدعوة بعَين “يتلو عليهم آياته” أي بعين البلاغ، مثلما قيل: “الدعوة هي إبلاغ الناس دعوة الإسلام، في كل زمان ومكان، بالأساليب والوسائل، التي تتناسب مع أحوال المدعوين” (6)
ومن اتبع تلك المدرسة في تعريف الدعوة قصرها على التبليغ، وبالتالي أخرج كثيرا من المتابعين للمهتدين الجدد ومعلّميهم من ميدان الدعوة، وهو أمر أراه قد حاد عن شمول معنى الدعوة كما قدّمها نصّ القرآن الكريم وكما فهمها وامتثل لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم-
وهناك من وسّع رقعة تعريفها مفصِّلًا، مثلما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-بقوله: “الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاء به رسله بتصديقهم بما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه” (7)
وهناك من وسّع رقعته مجمِلًا، مثلما قال “محمد البيانوني” عن تعريفها: هي تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة. (8)
ومع التنبيه على عدم تعارض التعريفات، أتبنى التعريف الأخير للدعوة إذ أراه الفهم المجمل الأقرب للدعوة بأركانها الثلاث: التبليغ، والتعليم، والتزكية كما عرفتها آية سورة الجمعة.
من مناقشة شبهة مَن قصر معنى الدعوة على التبليغ والبيان ونظر إلى التعليم والتطبيق نظرته إلى أمور خارجة عن الدعوة
انطلاقًا من التعريف الأخير، أفرد “البيانوني” عدة صفحات من مدخله إلى علم الدعوة لمناقشة هذا القصر الذي سمّاه “شبهة”، وعرض عددًا من الآيات التي يستند إليها من يقصر الدعوة على البلاغ، مثل:
“وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (9)
“فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ” (10)
ثمّ ذكر تعليقًا نفيسًا حين قال:
“لو أمعنّا النظر في الآيات لرأينا معظمها يعلّق حصر عمل الرسول بالبلاغ بإعراض الناس وتوليهم،
وبهذا تجتمع دلالة هذه الآيات مع دلالة الآيات الأخرى التي نصت على أعمال أخرى للرسول الكريم من تلاوة لآيات الله وتزكية وتعليم للكتاب والحكمة، كما تنسجم مع الواقع العملي لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم في حياته- وواقع دعوة صحابته وأتباعه من بعده.
وقد قصر بعض إخواننا الدعاة عملهم على جانب حتى عُرِفوا به ظانين أنه عمل الأنبياء فحسب، بل نظر بعضهم إلى غيرهم من الدعاة الذين يعنون بالعلم والتعليم أو بالتطبيق والتنفيذ نظرة استخفاف ونقد، كما نظر بعض المعتنين بالعلم والتعليم أو بالتطبيق والتنفيذ لأولئك المبلغين نظرة استخفاف أيضا فوجهوا لهم النقد الشديد في توجههم ودعوتهم، دون أن يفهم بعضهم بعضا ويقدّر بعضهم قدر بعض، مما زاد المسلمين بعدا وفرقة.
ولو علم هؤلاء وهؤلاء أنه يسع الداعية أن يعمل في الميدان الذي يختاره والعمل الذي يناسبه من أعمال الدعوة مراعيا في ذلك إمكاناته واستعداداته من جهة، أو مقدما أولوية على غيرها في نظره من جهة أخرى، على ألا يقصر مفهوم الدعوة الإسلامية على عمله واختياره، أو ينظر إلى من خالفه في ذلك نظرة ابتداع أو خروج عن عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالميدان الدعوي واسع وجوانب العمل متعددة، والثغرة أوسع من أن يسدها عمل من الأعمال.
فلو علم الطرفان هذه الحقيقة وفهموها فهما متوازنا لشكر بعضهم جهد بعض ونظر كل طرف إلى العاملين الآخرين في أي مجال دعوي نظرته إلى أعوانه وشركائه”. (11)
دعوة للتفكّر!
الآن، تخيل معي أيها الداعية المحاورالمبلِّغ أنه لا أناس على الأرض. لا أجناس ولا ألوان ولا أعمار. هب كلَّ من يمشون في الأرض بطاقاتٍ تعريفية، بها ثلاث خانات: مخلد في النار، غير مخلد في النار، مترقّي في درجات الجنة.
دورك أن تنقل علامة ✔ من خانة “مخلد في النار” إلى خانة “غير مخلد في النار” لكل بطاقةتعريفية.
وتخيل معي أيها الداعية المتابع المعلِّم نفس الشيء، ودورك أن تنقل علامة ✔ من خانة “غيرمخلد في النار” إلى خانة “مترقي في درجات الجنة” لكل بطاقة تعريفية.
أرأيتما معي كم هو مهم محوري دور كل منكما؟
يأتي المرءُ المحاورَ ضالًّا، فيهديه الله به لشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يأتي المهتدي المعلمَ وليس في جعبته سوى تلك الشهادة لفظًا، وربما لمحة بسيطة مما تحويه من معان، فيهديه الله به لتعلُّم أركانها ومقتضياتها ثم تعلُّم الإيمان وأركانه ثم التدرج في المعرفة عن الله –تعالى- وشريعته ليؤدي حقوقه –عز وجل- عليه في رحلة طلب العتق من النار وتحريم جسده عليها وطلب الدرجات العلا من الجنة.
إذا انشغل المحاور بدور المعلم لكل نفس يدلها على خالقها ما اتسع عمره لذلك، وإذا تهاون المعلم في دوره مع المهتدي أو استصغره لارتد من ارتد وضل من ضل وظل المهتدون غارقين في بحور الظلمة والجهل إلا من رحم ربي وشاء له غير هذا.
ومما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: “إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ..الحديث.” (12)
وكذا بعد أن تعرّضنا لجانبٍ من المفاهيم حول الدعوة، نرى شطريّ الدعوة بوضوح بين: “فادعُهُم” دور المحاور المبلِّغ اليوم و “فأعلِمهم” دور المتابع المعلّم اليوم.
إذا رأينا عبادَ الله بطاقاتٍ رُزِقنا مدادًا من الهدى نملؤها به، ما تقاعس أحدنا ولا استصغر دوره ولا دور غيره، بل اجتهد رجاءً فيما عند الله وخوفًا من أن يجف مداده ويُبتَلَى بالاستبدال والعياذ بالله، والله متم نوره، والله عزيز حكيم.
(1) المعجم الوسيط- مادة دعا- 1\286
(2) أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، 1/ 189
(3) سورة الرعد آية 14
(4) زاد المسير في علم التفسير- 4\317- ط المكتب الإسلامي
(5) سورة الجمعة آية 2
(6) مستلزمات الدعوة في العصر الحاضر، علي صالح المرشد، ص: 21، ط1
(7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أبو العباس أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 15/ 157-158، ط2
(8) المدخل إلى علم الدعوة، محمد البيانوني، ص: 17
(9) سورة المائدة آية 92
(10) سورة الشورى آية 48
(11) المدخل إلى علم الدعوة- محمد البيانوني- ط3 – ص 20
(12) صحيح البخاري برقم 1395، وصحيح مسلم برقم 19
الكاتب: فاطمة محب
المراجعة: إيمان الحبوباتي
القراءة الصوتية: أسامة قائد القطاونة