في الجزء الأول من المقال (التمهيد والإعداد) تناولنا مقدمة وتعريفًا عن علم التاريخ، وقدمنا مقارنة بين علم التاريخ وعلم الحديث في الخطوات التمهيدية لتحقيق الرواية والوثيقة التاريخية، وفي هذا المقال ننتقل إلى المرحلة التالية، وهي الأكثر تفصيلًا وأهمية في كلا العلمين، هي (النقد والتحري) مع تناول احتياجات المحدث والمؤرخ للقيام بها على أفضل صورة ممكنة.
ثانيًا: الإلمام بالأدوات (العلوم) اللازمة وإتقانها
في أي تخصص علمي تنقسم العلوم التي يدرسها المتخصص إلى علوم أساسية وعلوم تخصصية، تمثل العلوم الأساسية احتياجًا ضروريًا للمتخصص وإن بدت غير منصبة بشكل مباشر وصريح على تخصصه، وللأمر درجات، فمثلًا تعلم القراءة والكتابة، والحساب ومبادئ العلوم، والدراسات الاجتماعية تمثل ضرورة لأي إنسان أيًا كان تخصصه في المستقبل؛ فلذلك يتم تدريسها في المرحلة الابتدائية، والتي يطلق عليها (التعليم الأساسي)، ثم من يتوجه تلقاء الجامعة بدخول الثانوية العامة يحتاج أيضًا شيئًا أوسع من العلوم الأساسية، تتضمن تعلم أكثر من لغة وتقسيم العلوم إلى أحياء وكيمياء وفيزياء، وتقسيم الدراسات الاجتماعية إلى جغرافيا وتاريخ، ليعرف الدارس قدرًا من كل هذا قبل أن يتخصص في الدراسة العلمية أو الأدبية، ثم في عموم الكليات تكون الدراسة في أول عام أو عامين أيضًا مجموعة من العلوم الأساسية في المجال الذي تمثله الكلية قبل أن يزداد التخصص بتنسيق داخلي جديد، يكون هذا التنسيق – في الأماكن المحترمة – معتمدًا على مدى تفاوت إتقان الطالب وتقديراته في تلك العلوم الأساسية التي تحتاجها التخصصات المختلفة، ومما أذكر لأستاذي الدكتور متولي أبو حمد رئيس قسم الهندسة الإنشائية في جامعة القاهرة – حين تخرجي – أنه عندما طالبه بعض الطلبة بعدم احتساب الخطأ الذي يقع في الامتحانات إذا لم يكن خطأ في المفاهيم الهندسية ولكن خطأ في مفهوم رياضي، ـــ وهذا المنهج كان منهج غيره من الأساتذة ـــ ، قال قولًا لا يمكن رده في رأيي (أن خطأ المهندس سواء كان في المفاهيم الرياضية أو في الفكرة الهندسية نتيجته واحدة وهي كارثية، وإن تخرج المهندس من كلية الهندسة يعني بالضرورة أنه أتقن الاثنين على سواء، فلو كان هذا غير متحقق فالتخرج مزيف)؛ ولأننا نتكلم عن علم الحديث فأشير أنني أروي قول الدكتور متولي بالمعنى؛ لأني لا أذكر النص بالضبط.
إن إهمال علوم الأدوات في شتى المجالات نتائجه كارثية، كمن يتحدث في تفسير القرآن الكريم مثلًا ولا يتقن اللغة العربية فتسمع منه العجائب، والأمثلة في حياتنا العملية لا تنحصر، ولكن أين تقع تلك العلوم في خارطة اهتمام علماء التاريخ؟ هل تحظى بنفس الأهمية؟
يقول الدكتور أسد رستم في كتابه مصطلح التاريخ: (لابد للمؤرخ العصري المدقق من ولوج باب آخر كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة، عليه أن يقلب ما قمش وينعم النظر فيه ليرى إذا كان بإمكانه أن يدرك كنهه فيستعمله في تشييد ما يبني من صروح التأريخ، فإذا فعل سرعان ما يشعر بحاجته إلى ما نريد أن نسميه بالعربية “العلوم الموصلة”).
ثم ضرب مثالًا عمليًا للتوضيح: كيف يتم إدراك الاحتياج لتلك العلوم وتحديدها من خلال مهمة تحقيق حقبة معينة من التاريخ الحديث (وقد وجدنا باختبارنا عندما خطونا خطوة التقميش في تاريخ العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن الأصول لهذه الحقبة من تاريخنا ترد في العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والبولونية والروسية، وأهمها الخمس لغات الأولى، فأسرعنا لالتقاط ما ينقصنا منها، وكم كنا نود لو كان بإمكاننا أن نتعلم الباقي منها كي لا تكون استنتاجاتنا موقوفة على مقدرة المترجمين من هذه اللغات).
ويضيف (ولدى إعادة النظر في بعض ما عثرنا عليه من الأصول المشار إليها ألفيناه رسائل رسمية متبادلة بين حكام هذا العصر، توخى كاتبها نوعًا خاصًا من الخط العربي والديواني المعلق، ولا يخفى أن قراءة الخطوط العربية العادية لا تكفي للتيقن من قراء الخط الديواني المعلق، فأخذنا عندئذ ندرس قواعد هذا الخط للتثبت من قراءة الأصول المكتوبة به، وقل الأمر نفسه عن الأختام المستعملة في هذه الرسائل، فلابد من معرفة المواد التي تصنع منها هذه الأختام وكيفية بصمها)
وكي لا أطيل الاقتباس وأطيل على القارئ ذكر الدكتور بعد ذلك أيضًا حاجتهم لدراسة العادات المرعية في فواتح المراسلات في هذا الوقت عن طريق دراسة أصول المراسلات الرسمية في مصر وسوريا والعراق وغيرها في القرنين الآخرين – وهذا من فوائد التقميش – كما درسوا أنواع الحبر وألوانه وأشكال الورق ومقاساته وغير ذلك، ثم أشار إلى أهمية دراسة المؤرخ لعلوم الاجتماع والفلسفة التي تعينه على إدراك دوافع الأحداث والوقائع، ثم ختم هذه النقطة بقوله (وهل يختلف اثنان في أنه يجب على مؤرخ العلوم الرياضية أن يكون مؤرخًا ورياضيًا من الطبقة الأولى، وهل بإمكان من يجهل العلوم الرياضية من المؤرخين أن يبت في تفوق علماء اليونان على علماء الشرق القديم في مضمار علمي الهندسة والفلسفة الطبيعية؟ أو أن يحكم فيما كان علم الجبر وعلم المثلثات من ابتكارات العرب أم لا؟ أو أن يقدر جهود لابلاس ونيوتن ومونج حق قدرها؟ أو ليس من المضحك أن يتصدى للحكم على ابتكارات أينشتاين من لا يفقه شيئًا من الرياضيات العالية؟ وقل الأمر نفسه عن تاريخ العلوم الطبيعية والطب وغير ذلك).
أينعم.. كم هو مضحك فعلًا! ولكن من يدرك!
وفي كتابه (مناهج البحث العلمي) يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في مناقشته لنقد النص: (ولكي يصلح النص إصلاحًا حقيقيًا يجب على من يتصدى لهذا العمل
- أولًا: أن يكون محيطًا باللغة التي كتب بها النص،
- ثانيًا: أن يكون عالمًا بالخطوط التي كتبت بها النصوص التي يشتغل فيها، وبكل الخطوط التي مرت بلغة من اللغات إذا كان ما يتناول عصورًا متطاولة،
- ويجب ثالثًا: أن يكون على علم بالأخطاء الشائعة الخاصة بكتابة لغة من اللغات مما يرد عادة لدى النساخ في أحوال كثيرة تبلغ درجة أن تكون هذه الأخطاء عامة، وينبغي من أجل ذلك وضع معجم أبجدي منهجي للأخطاء الشائعة الخاصة بكتابة لغة من اللغات…)
ومن ذلك نستفيد ما يلي:
- لو تأملت في حال الكثير ممن يتحدثون عن السنة وعلم الحديث ويضعون لأنفسهم مسمى (مؤرخ أو باحث في التاريخ أو التراث) وتأملت في إمكانياتهم لوجدت أنهم أصلًا لا يصلحون للعمل في دراسة التاريخ أو التراث الذي هو أقل أهمية وأقل احتياجًا للإمكانيات من الحديث، لا تجد عندهم شيئًا يذكر من تلك العلوم الأساسية المساعدة التي ذكرها الأستاذان عاليًا، ففي طريق قراءتي ومحاولتي للفهم أدركت أننا لا ينبغي علينا فقط ألا نعتمد عليهم في نقد علم كعلم الحديث؛ بل لا ينبغي علينا أن نعتمد عليهم في العلوم التي يدعون أنهم متقنون لها.
- تبين عاليًا أن حتى المؤرخ المحترف ليس محترفًا في كل مجالات التاريخ بالضرورة، لاختلاف الأدوات المطلوبة لكل مجال منهم، وهذا في داخل نفس المجال وهو تحقيق التاريخ، فما بالنا بانتقاله إلى البحث والتحقيق في علم موضوعاته وأدواته تختلف عن علم التاريخ جملة، فلو فرضنا أن أحدهم مؤرخ متقن في مجال أو اثنين أو عشرة درس علومهم الأساسية والمساعدة وتمكن من الأدوات التي يحتاجها فيهم، فهذا لا يعطيه الحق بالضرورة للانتقال إلى علم الحديث دون أن يحقق نفس الأمر أيضًا فيه، وهذا غاية في المنطقية قبل أن يكون متسقًا مع ما قاله الأستاذان في كتابيهما.
- لقد قامت بالفعل علوم مساندة كثيرة تخدم مهمة المحدث، ولا يصبح المحدث المحقق متقنًا معتمدًا ولا يكثر صوابه إلا بتحقيق التمكن في تلك العلوم، وقد ذكرت في الفصل السابق جانبًا منها عندما تكلمت عن العلوم التي تخدم معرفة الرواة، كمعرفة الصحابة مثلًا ومعرفة التابعين، ومعرفة الإخوة والأخوات، ومعرفة المتفق والمفترق، ومعرفة المؤتلف والمختلف، ومعرفة المتشابه ومعرفة المهمل، ومعرفة من ذكر بأسماء وصفات مختلفة، ومعرفة تواريخ وأوطان الرواة، ومعرفة من خلط من الثقات.. إلخ، وقد صنف العلماء كتبًا متخصصة في كل علم من تلك العلوم.
بجانب العلوم الكبرى كعلم الجرح والتعديل الذي لا يمكن للمحدث أن يقوم بمهمته والدخول إلى الرواية لتحقيقها مباشرة سندًا ومتنًا دون إلمام بالجوانب المختلفة هذا العلم، وقيام علم العلل الذي هو من أشد ما يتميز به محدث عن غيره حسب درجة إتقانه له، وقد ذكرت أيضًا أن التمكن فيه هو من الأمور التي ميزت الإمامين البخاري ومسلم، وأنه غير متوقف على التحقيق الظاهر للسند؛ لأنه يبحث عن العلل الخفية في الأحاديث التي ظاهرها الصحة التامة والتي رواه الثقات الحفاظ.
وبالقطع اللغة العربية معلومة بالضرورة في هذا الشأن كعلم أساسي وأداة لا يمكن أن يسمح لمن لا يتقنها أن يقول ويفتي في أي علم من علوم الدين جملة.
بل ووضعوا قواعد وأصول لكتابة الحديث وتدوينه لتقلل الأخطاء وتزيل الإشكال، وقد ذكر ابن الصلاح شيئًا من هذه القواعد والأصول في مقدمته الشهيرة (معرفة علوم الحديث) تحت عنوان (النوع الخامس والعشرون، في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده) وكذلك الإمام السيوطي في كتاب (تدريب الراوي).
ثالثًا: النقد والتحري
ولأن هذه النقطة هي عصب الموضوع وتمثل الجزء الأكبر من التناول في الكتابين، وحرصًا على عدم الإطالة فسألخصها كما يلي:
وقد قسم الدكتور أسد رستم في كتابه (مصطلح التاريخ) هذه المرحلة إلى قسمين رئيسيين:
الأول: نقد الأصول (النقد الخارجي)
وفيها:
- التأكد من أصالة الأصول والتثبت من خلوها من أي دس أو تزوير، وقد شرح هذه النقطة بضرب مثال (تحقيق وثيقة البراق وذلك بفحص الورق والحبر وأسلوب الكتابة مقارنة بالشائع في زمانها، وكذلك أسماء المرسل والمرسل إليه، وتاريخهما ومناصبهما في تلك الفترة، ومدى تناسب الفحوى مع الصلاحيات والمنصب، كذلك توافق روحها مع علاقة اليهود بحائط البراق في هذا الزمان، وموقف المؤسسات الإسلامية في هذا العهد منهم عبر أقوال المؤرخين والرحالة، ووجود وثائق أخرى في دار المحفوظات يرجع تاريخها لنفس الحقبة تؤيد نفس المعنى)، وهذا كله يعتمد بشدة على التقميش والعلوم المساعدة أو الموصلة.
- التعرف إلى المؤرخ (صاحب الوثيقة أو الرواية) المجهول وتعيين الزمان والمكان، فصحة الأصل لا تعني الانقياد لما فيه دون التحقق من هوية المؤرخ وشخصيته، والمكان الذي عاش فيه والزمان الذي دوّن فيه أخباره.
- تحري النص والمجيء باللفظ، يقول الدكتور (التاريخ علم في تحريه الحقيقة وكعلم يطلب الحقيقة كما هي، والأصول هي صلة المؤرخ الوحيدة بحوادث الماضي، وإذًا فهدف المؤرخ المنقب أن يتحقق من هذه الصلة ومن حرفية نص الشهادة التي فيها، ثم يروي هذه الشهادة كما صدرت عن صاحبها الأصلي متحريًا في ذلك درس ما يمكن أن يكون قد عرض عليها من زيادة أو تحريف أو نقصان) (فحيث يظفر المؤرخ بالأصل نفسه، بخط واضعه أو بتصديقه فعليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته؛ لأن ما يصحح اليوم ويحسب تقوميًا قد يمكن أن يكون اعوجاجًا وتضليلًا، فكم وكم من الاصطلاحات العامية تفقد قوتها أو ضعفها عندما تبدل بما يعتقده الناشر مقابلًا لها بلغته الفصحى، وكم وكم من المعاني الفصيحة والعامية أيضًا تتغير بتقديم أو تأخير أجزاء جملها بعض عن بعض، علينا أن نثبت الأخبار كما رواها شاهدها لا كما كان “يجب عليه أن يرويها” وعلينا أن نتحاشى جميع الطرق في النشر التي تعرض الأصل لهذه المخاطر).
الثاني: النقد الداخلي
أولًا: النقد الداخلي الإيجابي: وهو تفسير ظاهر النص وفهم معناه بعد أن تم إثبات اللفظ في المرحلة السابقة
وهذا يحتاج معرفة لغة الأصل الذي يدرس، واستكمال النص إذا أعياه الفهم لعله يدرك ما خفي عليه، وإن لم يكن فالاستعانة بسائر مؤلفات المؤلف التي يدرك منها، ومن أسلوبه ولغته ما أعياه، وليعلم أن عدم فهم ظاهر النص قد يكون سببه وجود المجاز والاستعارة والكناية فعليه دراسة ذلك ككتاب الفخر الرازي (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز).
ثانيًا: النقد الداخلي السلبي: إدراك غرض المؤلف (العدالة والضبط)
يقول علماء التاريخ: شك المؤرخ رائد حكمته، والأصل في التأريخ الاتهام لا براءة الذمة.
فالحواس تخدع ولا تدرك الحقيقة دائمًا، والإنسان ينسى، كما يتعمد الكذب والتضليل أحيانًا.
ينحصر شك المؤرخ في سلسلتي أسئلة لابد من إجابتها كي تخرج الحقائق التاريخية من سترة الريب
السلسلة الأولى (العدالة)
- هل للراوي مصلحة مما يرويه؟
- هل وقع الراوي تحت ضغوط معينة؟
- هل شايع الراوي فئة إلى حد قد يجعله يناصرها على غيرها بالباطل؟
- هل اندفع بالغرور والكبرياء ليقول الباطل؟
- هل تعمد الراوي التودد لعموم الناس أو مداراتهم؟
- الترقب والتدقيق في الأسلوب الأدبي الروائي للمؤلف، فالذوق الفني قد لا يتفق مع ذكر الحقيقة كما هي، وفي الفن قد يقول الكاتب ما يتمناه لا ما حدث بالضبط، وهذا مزعج جدًا للمؤرخ، إلى حد اعتبار أن الشك في عدالة الراوي يتناسب طرديًا مع زيادة إبداع الراوي أدبيًا.
السلسلة الثانية (الضبط)
- ١- هل كان يتمتع بعقل وحواس سليمة؟ أم أنه كثير النسيان والخطأ؟
- ٢- هل تمتع الراوي بكل شروط المشاهدة العلمية؟ وهي:
أولًا: أن يكون الراوي في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة سليمة
ثانيًا: أن يكون في أثناء المشاهدة بعيدًا عن الغرض
ثالثًا: أن يدون ما شاهده في أثناء الحوادث المروية
رابعًا: أن يوضح بجلاء تام طريقته في المشاهدة والتدوين، فقد يشاهد الراوي ما يروي ولكنه يكون في وضع يحول بينه وبين دقة النظر والسماع، أو الاستعداد الفني لفهمه، أو لا يدون إلا بعد فترة طويلة فتطرأ عليه حوادث تضعف دقة نقله، لذلك الذكريات تعد عند المؤرخ هي أضعف الروايات.
- ٣- هل هناك حقائق كان بإمكان الراوي أن يشاهدها أو يفهمها إذا كلف نفسه مؤونة البحث عنها
- ٤- هل روى الراوي ما لا يمكن استكماله بالمشاهدة فقط – تمييز الاستنتاج عن المشاهدة-، ودراسة قدرات الراوي على تحقيق هذه المشاهدة ليعلم مشاهدته من استنتاجه، بجانب دراسة قدراته الاستنتاجية.
أما الدكتور عبد الرحمن بدوي فيتناول هذه النقطة – أيضًا باختصار – كما يلي:
يقول الدكتور: (وليس في وسعنا أن ننشد حجة قول ما لدى إنسان لم تكن له صلة بالحادث أو الواقعة التاريخية، ولا يمكن أن نتلقى الأخبار اعتباطًا من حيث أنها أخبار دون أن نشير إلى المصدر الذي صدرت عنه، فلهذا لا يكفي أن تكون لدينا الوثائق صحيحة وكما كتبها واضعها، ولكن يضاف إلى هذا أن نعرف أولًا: ما مصدر الوثيقة؟، ثانيًا: من مؤلفها؟، ثالثًا: ما تاريخها؟)
وينقسم النقد عنده أيضًا إلى قسمين:
الأول النقد الخارجي:
١- نقد الاستعادة: يؤدي إلى استخراج النص الأصلي بعد إزالة كل التصحيفات وأخطاء النسخ والحشو دون أن يضيف للنص شيئًا.
٢- نقد المصدر: ليست العبرة فقط بأن تكون الوثيقة كما كتبها مؤلفها، ولكن من مؤلفها الحقيقي أصلًا، فقد كثر الدس ونسبة الكتب والوثائق لغير أصحابها في هذا الصدد لأغراض مختلفة
ومن وسائل ذلك التأمل في الخطوط والأساليب البلاغية العامة التي تختلف من عصر لعصر ولكن بحرص ودون سطحية، كذلك مدى إمكانية حدوث هذه الأحداث في هذا الزمان، ومن المفيد النظر مثلًا لاقتباسات المؤلفين المعاصرين من الوثيقة كدلالة على صحتها ومعرفتها، ولكن ايضًا بحذر.
الثاني: النقد الباطن:
- النقد الباطن الإيجابي للتفسير
معرفة مقصد الوثيقة ومعاني ما فيها، وهذا يحتاج لإلمام جيد باللغة المستخدمة، وهي عملية صعبة لا سيما مع اللغات القديمة ومع تطور معاني الألفاظ والمصطلحات المستخدمة مع الزمن (فمثلًا الحائط =الجدار= البستان) مما قد يؤدي لأخطاء فاحشة في التفسير، فنحتاج لدراسة لغة العصر المكتوبة فيه؛ بل ولغة المؤلف وأسلوبه اللغوي، وواجب التزام التفسير للسياق، فإخراج الكلام من سياقه لسياق آخر لا سيما إن كان سياقًا حديثًا فيه تزييف لفكر المؤلف.
- النقد الباطن السلبي للدقة والنزاهة
النقد الإيجابي يقدم لنا مقصد المؤلف، أما هل شاهد هذا الحدث فعلًا أم لا؟ هل عمد إلى الكذب أم لا؟ هل رواه كما حدث أم لا؟ فدور النقد السلبي – تلخيصًا- هو إجابة سؤال إلى أي حد يمكن أن نثق في روايته؟
يقول الدكتور بدوي: (فالأصل أن كل صاحب وثيقة متهم بالخيانة والتزييف والخطأ وعدم النزاهة، ويمكننا أن نبدأ بحثنا إما بتأييد هذا الحكم السابق، أو بإثبات براءته، وبهذا الشك الحاسم المتناول لكل شيء، نستطيع أن نقيم فعلًا منهجًا علميًا لدراسة التاريخ، وهنا يجب أن نتبع قاعدتين:
القاعدة الأولى: هي أنه لا يجب أن نثق في رواية لمجرد أن صاحبها شاهد عيان، فشهادة العيان ليست بصحيحة دائمًا؛ لأن صاحبها يمكن أن يخطئ – كما سنرى بعد قليل – وقد يكون عرضة لكثير من الأوهام، حقًا إن شهادة العيان أسمى بكثير – ابتداء أو نظريًا – من شهادة غير المباشر، ولكن يجب ألا تؤخذ كأنها رواية صادقة من مجرد كونها رواية عيان.
القاعدة الثانية: يجب ألا نأخذ الوثيقة ككل؛ بل علينا أن نحللها إلى آخر ما يمكن أن تنحل إليه من أجزاء، وأن نبحث في قيمة كل جزء من هذه الأجزاء وصحة دلالته على الوقائع الواردة به).
ويفرق الدكتور بين اختبار الدقة والنزاهة في حالة الروايات المباشرة (شاهد العيان) وبين الروايات غير المباشرة.
أولًا: الروايات المباشرة:
(فعلينا بادئ ذي بدء أن نبحث الأحوال العامة للوثيقة التي نحن بصدد دراستها، فنجمع أوفر قسط من المعلومات عن المؤلف وعن أمانته وعن ثقة الناس به، وعن العصر الذي كتب فيه وعن الوثائق المشابهة التي روت نفس الحادث، وعن التوقيت الذي وجد به، حتى إذا ما استطعنا أن نجمع كل هذه المعلومات كان علينا كخطوة ثانية – هي خطوة البحث عن أمانته – أن نضع لأنفسنا طائفة من الأسئلة الموضوعة سابقًا؛ لأنها أسئلة عامة وإن كانت في الواقع تنطبق على كل حالة فردية مع بعض التعديل بما يوافق الحالة الخاصة وهذه الأسئلة تدور حول بابين: الباب الأول هو باب النزاهة، والثاني باب الدقة).
واختصارًا فإن الأسئلة التي ذكرها الدكتور عبد الرحمن بدوي مقاربة جدًا لأسئلة الدكتور أسد رستم التي ذكرتها آنفًا.
ثانيًا: الروايات المباشرة:
(فقليل من المؤرخين هم الذين شاهدوا الأحداث التاريخية، وقليل من المؤرخين هم من استطاعوا حتى أن يبلغوا مرتبة واحدة فيما بين الحادث الأصلي وبينهم هم أنفسهم، وحتى قائد المعركة الذي يكتب مذكرات عن معركته التي انتصر فيها قد اعتمد هو الآخر على تقريرات جاءته من صغار الضباط من قواد الوحدات المختلفة المكونة لجيشه؛ لأنه ليس في وسعه مطلقًا أن يشاهد الوحدات كلها كما هي.
وهنا يتعين علينا أن نلجأ إلى طريقة أخرى غير الطريقة التي امتحنا بها الدقة والنزاهة بالنسبة إلى الوثائق المباشرة، وأهم ما في هذه الطريقة أولًا: أن نحاول قدر المستطاع أن نتسلسل فيما بين الرواة المتوسطين حتى نصل إلى الراوي الأصلي الذي قد يكون عاين الحادث، فإذا استطعنا بلوغه تمكنا حينئذ من أن نحدد الرواية من حيث قيمتها الحقيقية على وجه التقريب، كما هي الحال تمامًا إذا كانت الوثيقة مباشرة، فننظر في الراوي الأصلي من حيث أمانته ودقته والظروف التي وجد بها كما فعلنا في الحالة السابقة، ولكن معرفة ذلك عسيرة كل العسر وتبلغ في أكثر الأحيان درجة الاستحالة، ولا نكاد نجد لهذا شبيهًا إلا في حالة الأحاديث النبوية، فهي وحدها تقريبًا في كل الأخبار العالمية تلك التي وردت مقرونة برواتها رواية عن راو حتى نصل إلى الشاهد الحقيقي في عهد الرسول، والمهمة تنحصر حينئذ في أمرين:
الأول: أن نمتحن الرواة المكونين للسلسلة الطويلة واحدًا واحدًا من حيث أمانته في الرواية من جهة،
وثانيًا: من حيث دقته في الرواية).
يتبع إن شاء الله..
https://almohaweron.co/the-status-of-alhadeeth-science3/
لقراءة المقالة السابقة من سلسلة المكانة العلمية لعلم الحديث اضغط هنا
https://almohaweron.co/the-status-of-alhadeeth-science1/
الكاتب: معتز عبد الرحمن