عرض ونقد

عجائب الحرية


الحمدُ للهِ وحدِه والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدَه..

عندَ غروبِ شمسِ يومٍ شتويّ لطيفٍ قابلتُ زميلةً لي وتبادلنا معًا أطراف الحديث وبعض الطعام والقهوة، تحدَّثنا معًا لأوَّل مرةٍ بأريحيةٍ شديدةٍ لم تكنْ معهودةً بيننا، كانت لطيفةً فوق توقعي ومريحةً في الكلام، ولمَّا اطمأنت الأرواحُ لبعضها أخذتْ في نثرِ ما بها من أفراحٍ وأحزانٍ، ثم عرجنا بحديثنا عن الأسرة ودور الأب في أسرته، وهل يحقُّ له أن يجبرَ بناته على عدم فعلِأمرٍ معيَّنٍ حرَّمَه اللهُ أم لا؟ وأيهما أفضلُ في التربية؟ وبالطبعِ أعلمُ رأي صديقتي في ذلك؛ لأنها أقربُ للعلمانية بفعلِ خطابٍ إعلاميّ مكثَّفٍ، لا يرحم ولا يترك للعقولِ متسعًا للتفكير،  ولكنْ ما أدهشني حقًا في كلامها قولَها: “بابا مش بيجبرنا على حاجة، فلو بنسمع فيلم مش كويس يقولنا ما بلاش الفيلم ده يلا نسمع فيلم غيره، وبالنسبة للملابس فبابا حط لينا حدود في اللبس اتفقنا عليها يعني مثلا البنطلون يتلبس على بلوزة واسعة شوية ولو من فوق اللبس ضيق اوي فنطول الطرحة شوية”، انتهى كلامُها..

وعجبتُ جدًا منه، فأجبتُها كيف لا يجبرُكِ والدكِ على شيءٍ، ثمَّ في الوقتِ نفسه يضعُ حدودًا في لباسك؟ ثمَّ من يضعُ الحدودَ؟ ولِمَ تكونُ حدودُ والدكِ هي الصوابُ؟ ربَّما يرى والدٌ آخرٌ أنَّ الحدودَ هي اللبسُ الواسعُ جدًا معَ عدمِ غطاء الشعر، ثمَّ يرى والدٌ آخرٌ أنَّ الحدودَ هى الفاحشةُ فقط وما دونَ ذلك فلا حرجَ، وربَّما يكونُ الصوابُ ألَّا حدودَ أصلًا، ثمَّ لِمَ تسخرين ممَّن يجبرُ بناتَه على الزيِّ الشرعيِّ، وهو قد وضعَ حدودًا لهم وتتهميه بالشدة وعدم الاحتواء وأنَّ أسلوبه منفرٌ في التربية؟ لِمَ الظنُّ أنَّ والدَك هو الصوابُ وكلُّ ما سوى ذلك إفراطٌ أو تفريطٌ؟

كان هذا الموقفُ وغيرُه دافعًا لرحلة بحثٍ عاجلةٍ عن معنى الحريةِ التي طالما اُختلِفَ معناها باختلاف زاويةِ الرؤية، معرفةُ كنه هذا الشيءِ الذي يدَّعيه كلُّ طرفٍ عندما يكون الأمرُ في صالحه وعلى هواه، وكما قال أبو العتاهية “وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكَ إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبيَّن من بكى ممن تباكى” ونحن هنا لمحاولةِ التنقيبِ عمَّن بكى ومن تباكى.

ولنضع قاعدةً  للسيرِ معًا لعلَّها تهوِّن علينا سفرَنا وتطوي عنَّا بُعْدَه وتحمينا من سوءِ المُنقَلب. ما أيسرَ الكلامُ والشعارات وما أصعب التطبيق فلا تكن كالأطفال وتحدِّثُنا عن خوارق العادات في ثوبِ البدهيات، فإنْ وافقتَ على هذا الميثاقِ فلتحزِمْ أمتعتَك ولتنطلقْ.

الحريَّةُ تلك الكلمة الفضفاضةُ الهلاميةُ، لو سألتَ السبعةَ ملياراتِ إنسانٍ عن معناها لربَّما أعطاك سبعةَ ملياراتِ تعريفٍ لها ، ولكن دعونا نتجاوز السردَ الطويلَ لمعاني الحريات، فهذا سيوفر علينا عناء اللفِّ والدورانِ، وسيقودنا إلى طريقٍ مختصرٍ سريعٍ يناسبُ الحالَ والمقامَ، ولنلمّ شعثَ تلكَ التعريفاتِ ونناقشُ صاحبَ الصيْتِ الواسعِ منها في عصرنا، ورَدَ في إعلانِ حقوق الانسانِ الصادرِ عام ١٧٨٩م على أنَّ الحريةَ هي حقُّ الفردِ في أنْ يفعلَ ما لا يضرُّ الآخرينَ، تعريفٌ لربَّما يُعجبُ أكثَر القراءِ؛ لأنَّه سهلٌ ومفهومٌ في ظاهره، لكن انتظر هو أيضًا تعريفٌ معقدٌ ومركَّبٌ إنْ سألنا عن ماهيةِ الضرر، ولنتفق هنا أنَّنا مختلفون اختلافًا عظيمًا في معنى الضرر، ولنأخذ جولةً في أنحاءِ هذا الكوكبِ لنشاهد تطبيقَ سكانه لمفهومِ الضررِفنتبع أحسنَه.

هبطتْ راحلتُنا في فرنسا عام ١٧٩٩م  حيث قامتْ الثورةُ الفرنسيةُ الهاتفةُ بشعارِ، “اشْنُقُوا آخر ملكٍ بأمعاءِ آخرِ قسيسٍ”، شعارٍ يوضِّحُ حجمَ الممارساتِ التي قامتْ بها الكنيسةُ والسلطةُ الحاكمةُ على شعبِ أوروبا وقتَها، كانَ للكنيسةِ الدورُ الأكبرُ في القيامِ بأبشعِ الجرائمِ في حقِّ العلماءِ والعامةِ سواء، واستغلُّوا جهلَ العامةِ بدينهم؛ فعيَّنوا أنفسَهم أربابًا من دون الله، واستحلُّوا لأنفسِهم كلَّ صنوفِ القهرِ والطغيانِ في الأرض، ووصلَ بهم الحالُ فاتَّهَموا العلماءَ بالكفرِ والسحرِ لمجردِ اكتشافاتٍ علميةٍ رصدتها الأعينُ المجردةُ وبعضُ التلسكوباتِ البدائيةِ، فمثلًا أثبتَ العالِمُ (برونو) أنَّ الأرضَ ليستْمركزَ الكونِ، وهذا عكس ما كانتْ تؤمنُ به الكنيسةُ، فكان جزاؤه هو تجريدُه من ملابسِه وتقييدُ يديه ورجليه بقضيبٍ من حديدٍ، وربطُ لسانِه ثمَّ حرقُه حيًا في ميدانٍ عامٍّ تراه أعينُ العامَّةِ؛ ليتَّعِظُوا من سوءِ المصير.  وإذا استطردنا في جرائمِ محاكم التفتيشِ التي أقامتْها الكنيسةُ في حقِّ العلماءِ، فلنْ يسَعَنا المقامُ، ولكنْ يكفينا أنْ نعلمَ أنَّ الكنيسةَ عاقبتْ تسعينَألفًا وثلاثة وعشرين عالمًا بأحكامٍ مختلفةٍ، وأحرقتْ كتبَ العلماءِ: كجيوردا ونيوتن؛ لقوله بقانون الجاذبية. كان نتاجَ ذلك ثورةٌ طبَّقت قانونَ نيوتن الثاني في الفيزياء بحذافيره (لكلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ مساوٍ له في المقدارِ ومضادٌ له في الاتجاه) ألقتْشعوبُ القارةِ العجوزِ حدودَ الدينَ بالكليةِ، ولم تفرِّق بين الغثِّ والسمينِ، وتحوَّلت من عبادةِ بعضِ البشر(الأحبار والرهبان) إلى عبادة كلِّ البشر(الشعب وإرادة الأمة).(1)    

نحن في بدايةِ عصورِ النهضةِ كما تُسمَّى، فكيف حالُ أوروبا ودولِ العالمِ الأوَّلِ بعدَ انتقالهم من الظلماتِ إلى النورِ! ولن نذهبَ في رحلتنا لمنظَّماتِ حقوقِ الإنسانِ فنطَّلعَ على القانونِ الدوليِّ؛ لنرى جمالَ المصطلحاتِ وتناسقِ الجملِ والكلماتِ،ولكن سنذهبُ مباشرةً إلى شوارعِ أوروبا والمدن الفاضلة؛ لنرى بأمِّ أعيننا كيف حالُ الحريةِ المطلقةِ وأهلِها.

في ليلةِ ٣١ أكتوبر من كلِّ عامٍ، تلعبُ شعوبُ بلادِ أمريكا وأوروبا لعبةَ خُدعةٍ أم حلوى، يتنكَّرون  في أزياءٍ غريبةٍ ومخيفةٍ في ما يُسمَّى بعيد “الهالووين”، الكلُّ متنكِّرٌ والكلُّ لا يعرفُ الكلَّ، وفي فبرايرعام 2018، كادت أنْ تفوزَ “أرينا” بمسابقةِ ملكةجمال كازخستان بين أربعة آلاف متسابقة، لولا أنَّها اعترفتْ في آخرِ لحظةٍ بأنَّها ليست امرأةً، وإنَّما رجلٌ يُدعى “إيلي” غيّر شكلَه بالكثيرِ من أدواتِ التزيين النسائية، فما عادَ يُمكنُ التفريقُ بينه وبين أجملِ الجميلات.

التَّنكرُ في زيِّ امرأةٍ والعكس شهيرٌ حتى في أفلامِ السينما، بل حتى النساء أنفسهن يستطعن ببعض أدوات المكياج وعمليات التجميل السريعة تغييرَ شكلهن تمامًا، هذا حقهن في أنْ يظهرن بالمظهر الذي أرادوه كما يقول القانون الدولي، لكن يبدو أنَّ الأمر ليس على إطلاقه، ففي عام 2010 صوَّتَ مجلسُ الشيوخِ الفرنسيِّ بإجماعٍ بحظرِ غطاءِ الوجهِ (النقاب)، وفي سويسرا عام 2013،وُقِّعتْ غرامةٌ قدرها 90 يورو على من ترتدي غطاءَ الوجهِ، وكذا الحال في هولندا وبلجيكا وبعضِ بلداتِ إيطاليا وإسبانيا وغيرهما الكثير، والكثير من بلاد الغرب بل والعُرب، وقررت محكمةُ حقوقِ الإنسانِ الأوروبية بعد إحالة القضية إليها أنَّه لا يُعدُّ ذلك انتهاكًا لحقوق الإنسان؛ لأنَّ إخفاء الوجه أمرٌ يهدد الأمن، أمَّا تغييرُه بأدواتِ الزينة يشيع الآمان كما تعلمون!

في عام2020 انقلب الوضعُ تمامًا مع ظهور فيروس كورونا، فأجبَرت بلادُ الغربِ شعوبَها كافةً رجالًا ونساءً على ارتداءِ غطاءِ الوجه (الكمامة)، وظهرَ رئيسُ فرنسا بغطاء الوجه، انْتظِروا لم يتوقف الأمرُ عند ذلك، بل نشرت مجلةُ (سايكولوجي توداي) ميزاتِ غطاءِ الوجهِ، وتخطَّفت وسائلُ الإعلامِ الخبرَ؛ لتحفِّزَ الناسَ على الالتزامِ بتغطيةِ وجوههم وقالت: إنَّ إخفاءَ نصفِ الوجه يزيدُ الجاذبيةَ بنسبةٍ تصلُ إلى 40% وأنَّها فرصةٌ جيدةٌ للأشخاصِ الخجولةِ ومن يعانون من الرهاب الاجتماعي، بالأمسِ كان إمَّا كشفُ الوجه أو الغرامة، واليومَ إمَّا سترُ الوجه أو الغرامةُ، وإعلامُ الغربِ والشرقِ يطبِّلُ في الحالتين.

وفي أغسطس لعام 2016 أظهرت بعضُ اللقطاتِ التي عرضتها وسائلُ الإعلامِ العالميةِ خمسَ رجالٍ من الشرطةِ الفرنسية وهم يُجبرون امرأةً مسلمةً على خلع “البوركيني” وهو لباسُ بحرٍ ساترٍ قليلًا مقارنةً بغيره على أحدِ شواطئ بلاد الحريات فرنسا، وأصدرت بلدياتُ فرنسا قرارًا بحظره لأنَّه رمزٌ دينيٌّ، هذا غيرُ منعِ غطاءِ الشعرِ (الحجاب) في الكثيرِ من المدارس والمؤسسات العامَّةِ في فرنسا وغيرها؛ لأنَّه رمزٌ دينيٌّ أيضًا.

الفواحشُ في بلاد الحريات لا حدَّ لها، فمِنْ المفارقاتِ أنَّ بلادَ الغربِ لا تُعاقِب أبدًا من يرتكبُ الفاحشةَ ولو مع عشراتِالنساءِ، فتلك حريةٌ والإنسانُ حرٌ كما تعلمون، لكنْ انتظرْ لا يجبُ أنْ تُسوِّلَ لكَ نفسُك أنْ تتزوجَ بأكثرَ من امرأةٍ فتلك خيانةٌ يُعاقِبُ عليها القانونُ بالسجنِ أو الغرامة، ولو أتيتَ بموافقةِ زوجتِك الأولى والثانية وأهلِك وأهلِهن وجيرانِك وأصحابِك،فلن يُغنُوا عنك من قانونِ بلادِ الحرياتِ شيئًا، ستذهبُ في داهيةٍ لا محالةَ.

لعلَّكم ملَلتم من حريةِ الشهواتِ في المدن الفاضلة، فلنكتفي بهذا القدرِ، ولنذهبْ إلى حريةِ الفكرِ والتعبيرِ، فبالتأكيدِ سنرى جنةَ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ كما تحدِّثُنا قوانينُ حقوقِ الإنسان.

في سبتمبرعام 2005، نشرتْ صحيفةُ “يولاندس” الدنماركية مقالةً بعنوانِ “وجه محمد” ونشرتْ معَ المقالةِ اثنتي عشرة رسمةًكاريكاتيريةً فيها استهزاءٌ من النبيِّ محمدٍ ﷺ، وجاء في المقالة نصٌ ترجمتُه تقولُ: ” إنَّ بعضَ المسلمينَ يرفضونَ المجتمعَالعلمانيَّ، ويطالبونَ بمنزلةٍ خاصةٍ من ناحيةِ التعاملِ معَ مشاعرِهم الدينيةِ الخاصةِ، وهذا لا يُطابقُ المفاهيمَ الديمقراطيةَالحديثةَ وحريةَ التعبيرِ عن الرأي التي تفرضُ على كلِّ شخصٍ أنْ يتقبلَ النقدَ والسخريةَ والتسخيفَ”(2) بعدها تسارعتْالصحفُ في سبِّ الرسول ﷺ كما حدثَ في فرنسا  والنرويج وألمانيا وغيرها من دول أوروبا، على الجانب الآخر ففي ديسمبرعام 2019  عُوقِبَ (ادولفو مارتنيز) بالسجن خمسة عشر عامًا؛ لأنَّه تجرَّأ على حرقِ عَلَمِ الشَّواذ بولاية “آيوا” الأمريكية؛ لأنَّ هذا فيه سخريةٌ وتسخيفٌ من فئة الشواذ وهذا غيرُ مقبولٍ في المجتمع الغربيِّ الحر!

في الأوساطِ الأكاديميةِ فإنَّ الوضعَ لا يختلفُ عمَّا سبق، للباحثِ الحقُّ في البحثِ كيفما شاءَ؛ لمعرفةِ نشأةِ الكونِ طالما لنْيَمَسَّ نظريةَ التطوُّرِ بسوءٍ، فإنْ تجرَّأَ عالِمٌ أو مجلةٌ على نشرِ ورقةٍ علميةٍ تتحدثُ فيها ولو بالتلميحِ عن الخالقِ  والتصميمِالذكيِّ (أي أنَّ الكونَ لا يمكنُ أنْ يكونَ أتى بالصدفة)  فستَقُومُ الدُّنيَا حتى تضطرَ المجلةُ أو الجامعةُ لطردِ الباحثِ الذي أتى بهذا العارِ في حَرَمِهَا، يقصُّ علينا الفيلمُ الوثائقيُّ “المطرودون”(expelled) عشرات القصصِ عن ذلك، الدكتور “ريتشرد فون” أخصائيّ علمِ الأحياءِ التطوريِّ، والذي كانَ يعملُ مُحرِرًا لمجلةٍ علميةٍ تابعةٍ لمتحفِ “سميستونيان للتاريخ الطبيعي” نشر مقالًا للدكتور “ستيفن ماير” يطرحُ فيه أنَّ التصميمَ الذكيَّ قد يكون هو التفسيرُ لنشأة الكون، فوصَفَه رئيسُ القسمِ بأنَّه إرهابيُّ الفكرِ، وطُرِدَ من مكتبِه وانتهتْ حياتُه العلميةُ عند هذا الحدِّ، وهذا ما حدثَ أيضًا مع الدكتورة “كارولين كروكر” إخصائيةِ علمِ الأدويةِ المناعيِّ في جامعةِ “جورج ميسون” ودكتور “مايكل إغنور” جراح الأعصاب وغيرهم.(3)

يروي د/ مهاب في كتابِه “الإجابةِ القرآنية” عن حادثةٍ وقعتْ في ديسمبر عام 2004 حيث رفعَ الاتحادُ الأمريكيُّ للحرياتِالمدنيةِ دعوى قضائيةً للمطالبةِ بمنعِ مدرسةِ (دوفر) في (بنسلفانيا) من مجردِ إعلامِ طلَبَتِها بوجودِ كتابٍ عن التصميم الذكي في مكتبتها يمكنهم الرجوعُ إليه، ويعقِّب دكتور مهاب ويقول: “أنه ربما لا يوجد فارقٌ بين بدوِ قريشٍ الهمجِ الذين يصرخون في ضعفائِهم ومُتبَّعِيهم ( لَا تَسۡمَعُوا۟ لِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡا۟ فِیهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ)، وبين السادةِ العلماء المتحضرينَالقابعينَ في أكاديمياتهم الأنيقةِ ويقرِّرون ما الذي يجبُ وما الذي لا يجبُ أنْ يعلمَه عامةُ الشعب أمثالنا”.(4) وهذا غيضٌ من فيضٍ عن تطبيقِ الحريةِ في الغربِ، ولو استطردنا فيه لما أسعفَنا الزمانُ ولا المكانُ، وفي المصادرِ المزيدُ لمَنْ أرادَ المزيدَ.

لمْ يكنْ مقصدي عند سردِ تلك الأمثلةِ أنْ تُبغَضَ تلكَ القوانينُ التي لم تتركْ للناسِ حريتَها المطلقةَ ووضعتْ لهم حدودًاتناسبُ توجُّهَ المجتمعِ وثقافتِه ، ما أردتُ فقط إيصالَه هو إعلامُك أنَّ الحريةَ المطلقةَ مستحيلةٌ عقلًا، وأنَّ الجميعَ يضعُحدودًا وقيودًا تُناسبُ فكرَه ومعتقدَه، ويحاربُ بالقوانينِ والقوةِ كلَّ من يريدُ تغييرَها، ولا إشكالَ في ذلك بل لا يُمكنُ أن تستقيمَ حياةٌ بدونِ حدودٍ يفرضُها الغالبُ، اعْرِضْ لي هذا النظامَ الخياليَّ الذي يمكنُه أنْ يقولَ لسبعةِ ملياراتٍ من البشرِأنتَ حرٌ ما لم تَضُر، وليحددْ كلُّ فردٍ منكم المعنى الذي يناسبُه للضررِ، ربَّما لن يكملَ الأمرُ ستينَ  دقيقةٍ حتى تسمعَتصادمَ الأرضِ مع أيِّ نجمٍ بسببِ أعراضِ مرضِ جنونِ البشرِ الذي ستَغرقُ فيه، يشرح د/ مهاب السعيد هذا الاختلافَالهائلَ بين البشرِ ويقول: “أننا لو أردنا أن نجد شخصين لهما البصمات نفسها فعلينا أن نبحث وسط 64 مليار بصمة في أربعة مليارات عام! كل البشر حيهم وميتهم يملك كل واحد منهم بصمة متفردة تميزه عن الآخرين” هذا بالنسبة للجسمِ فما بالك باختلاف النفوس! ثمَّ دعْني أخبرُك أنَّ نفسَك التي بين جنبيك مختلفةٌ الآن عن نفسِك من عشرةِ أعوامٍ، وعن نفسك بعد عشرةٍ أخرى، فأيُّ نظامٍ يمكنُه التعاملَ مع اختلافِك مع من حولِك واختلافِك مع نفسك دونَ قواعدٍ صارمةٍ! إذًا  لا بدَّ من حدودٍ. دعونا نتَّفقُ، ودعونا نختلفُ في ماهيةِ الحدود التي ارتضتها كلُّ منظومةٍ لنفسها، ولنبحثْ بالعقلِ أيُّهما أكثرُ واقعيةًومنطقيةً ورحمةً وحرية!ً وأنا لا أريدك أن تقيمَ تلك القيودَ الغربيةَ من حيث صلاحيتها -على الأقل الآن- ما أريدك فقط أنْتفعله هو أنْ تفكرَ في هذا التناقضِ الفجِّ الوقحِ بين الكلمات والتطبيق، أيُّ حريةٍ تلك؟ ولِمَ هذه حريةٌ وما عاداها بطشٌ وقهرٌ؟ وكيف حالُ عقلِك اللاواعي إنْ بدَّلنا القيودَ الغربيةَ بالقيودِ الإسلامية؟ لِمَ يشمئِز؟ لِمَ يثور وتتحركُ أمام عينيه دونَ عناءٍمصطلحاتٌ كالقهرِ والكبتِ والتخلُّفِ؟ الوضعُ هو نفسُه من حيثُ المبدأ لو تأملت، هو نفسه الجبرُ والفرضُ ولكن كلًا بنظرته، الفرقُ الأعظمُ أنَّ الإسلامَ أكثرُ وضوحًا من هذا الثعبانِ الماكرِ، الإسلامُ لم يدع حريةً مطلقةً في شريعته وخدَعك بالمصطلحاتِ الوهمية التي لم ولن تُطَبَّقَ أبدًا في أيِّ زمانٍ ومكانٍ، المشكلةُ ليست في الحدودِ، المشكلةُ في عقلِك الذي لا يتصور الحريةَ إلا بسبِّ اللهِ وأنبيائِه والتمرُّدِ على قيمِ المجتمعات المغلوبةِ على أمرِها، المشكلةُ أنَّه لا يرى الحريةَ إلا بشواطئ العراةِ وكأسٍ وغانيةٍ ونساءٍ تكشفُ أكثرَ ممَّا تستُر، المشكلةُ كمَا وصفها ابنُ خلدون في مقدمتِه “المغلوبُ مولعٌبتقليدِ الغالبِ في شعارِه وزيِّه ونحلتِه وسائرِ أحوالِه وعوائدِه”.

 


المصادر:

[١]- مقال “الكنيسة والعلم في العصور الوسطى للدكتور راغب السرجاني”. موقع قصة الإسلام.
[٢]- مقال “الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لمحمد-صلى الله عليه وسلم- في صحيفة يولاندس بوستن”. موقع ويكيبيديا.
[٣]- رحلة اليقين الحلقة ٤٣: هل بالفعل  ٩٩% من العلماء يؤيدون “نظرية التطور”.
[٤]- كتاب الإجابة القرآنية. كيف أجاب القرأن عن أسألتك الوجودية. د مهاب السعيد.
[٥]- سلسلة تحرير المرأة الغربية. د إياد قنيي.
[٦]- سلسلة رحلة اليقين. د إياد قنيبي.
[٧]- كتاب”نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية” د صلاح الصاوي.
[٨]- مقال” الجوانب النفسية الخفية للكمامات” جريدة الشروق.
[٩]- مقال”الحجاب الإسلامي وفوبيا حظر النقاب في الغرب” شبكة رؤية الإخبارية.
[١٠]- دورة منهجية التعامل مع الفكر الغربي. أ.د. عبد الوهاب المسيري.
[١١]- محاضرة المادية والحرية. أ.د. عبد الوهاب المسيري.

الكاتب: هبة كمال الدين محمود

المراجعة: لمياء قربي - هبة السيد أحمد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى