حينَ يُطْلَقُ مصطحُ ” التفكيرِ الناقدِ ” يتوهَّمُ البعضُ أنَّهُ (يستلزمُ الشكَّ في كلِّ شيءٍ)، وهذا توهُّمٌ خاطئٌ؛ لأنَّ مقصودَ التفكيرِ النقديِّ هوَ (التمييزُ بينَ الأقوالِ التي تستندُ إلى دليلٍ والأقوالِ التي لا تستندُ إلى دليلٍ)، ثمَّ التمييزُ بينَ صحيحِ الاستدلالِ وسقيمِه.
والتفكيرُ النقديُّ بهذا المعنى قد حثَّ عليهِ الشرعُ في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِ اللهِ تعالى:{قُل هاتوا بُرهانَكُم إِن كُنتُم صادِقينَ}وقولِه:{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا} وغيرِ ذلكَ.
وهذا الحثُّ من الشرعِ يدلُّ على أهميتِه؛ فالإنسانُ إنْ لمْ يتحرَّ الحقَّ فيمَا يسمعُهُ ويُلقى إليهِ، كانَ ولا بدَّ متشرِّبًا للضلالاتِ والأباطيلِ.
ومجال التفكير النقدي واسع جداً يشمل كل قولٍ يحتمل الصدق أو الكذب من جهة منشئه، بدءاً من واقع الأخبار والتعاملات اليومية، وصولاً إلى عالم الغيب، وقولي: “كل الأخبار المحتملة من جهة منشئه” مقصود؛ لأن هناك أقوال لا تحتمل إلا الصدق، وبالتالي فهي لا تخضع للتفكير النقدي؛ كتلك المعلومة بالبداهة العقلية، أو بالحس، أو بقول النبي. وكما أن هناك أقوالاً لا تحتمل إلا الصدق فإن هناك أقوالاً لا تحتمل إلا الكذب، كالتي تكون مناقضة لما عُلِم ثبوته يقيناً.
وبهذا تعلم أنَّ مجال التفكير النقدي يدور في فلك الأقوال المحتملة للصدق أو الكذب، بمعنى أن المتلقي لها يعلم عدمَ مناقضتها لحقيقةٍ عَلِم ثبوتها عن ضرورة أو برهان.
وبالحصر فإن المعلومات التي يريدُ الناسُ منَّا تصديقَها؛ إمَّا أنَّها تتناقضُ معَ معلوماتٍ يقينيةٍ توصَّلْنَا إليها بطريقٍ صحيحٍ، وإمَّا أنَّها تتعارضُ معَ معلوماتٍ ظنيةٍ، وإمَّا أنَّها لا تتعارضُ معَ أيِّ معلوماتٍ لديْنَا.
ففي الحالِ الأولِ “نحكمُ على ما جاءُونا بهِ بالبطلانِ دونَ الحاجةِ إلى خطوات التفكير النقدي – بالمعنى الضيق – ؛ وذلكَ لأنَّها تتعارضُ معَ حقائقَ ثابتةٍ، أمَّا في الحاليْنِ الأخيريْنِ، فإنَّه يجبُ اتباعُ الخطواتِ التاليةِ قبلَ التسرعِ في قبولِ أو ردِّ معلوماتِهم.
- فالخطوةُ الأولى: فتِّشْ عنِ الدليلِ، وذلكَ بالنظرِ في كلامِ المُدَّعِي: هلْ جاءَ بدليلٍ يُثبتُ دعوَاه أمْ لا؟ فإنْ لمْ يأتِ بدليلٍ يُصدِّقُ دعواه فإنَّ كلامَه مردودٌ، ومثال ذلك لو أنَّ شخصًا قالَ لكَ: “زيدٌ قاتلٌ” دونَ أنْ يقدِّمَ دليلًا، فهنا رُدَّ قولَه لا لأنَّك تعلمُ أنَّ زيدًا لمْ يقتلْ أحدًا، وإنَّما لأنَّ هذهِ الدعوى تفتقرُ في ثبوتِها إلى دليلٍ لمْ يأتِ بهِ، أما إن أتى به فانتقل إلى:
- الخطوةُ الثانيةُ: وذلك بفرزِ كلامِه، لأن كلامَه في هذهِ الحالةِ يتضمنُ ما يريدُ منكَ تصديقَه معَ دليلٍ يزعم استلزامه للتصديقَ. مثالُ ذلكَ: مَنْ يقولُ لكَ: الحياةُ عبثيةٌ؛ لأنِّي أجهل الحكمةَ منْها.
فقولُه: “الحياة عبثية ” قولٌ يريد منك تصديقَه، وهذا القول يسمّى “دعوى” قبل الشروع في الاستدلال عليه، ويسمى “مطلوبا” أثناء الشروع فيه- أي في الاستدلال- ، ويسمَّى “نتيجة” بعد الفراغ منه، وكذلك يسمَّى مقدِّمةً إذا كان جزء دليل، والمفترض أن الشخص الذي أتاك بقولٍ يريد منك تصديقه قد جاءك بدليلٍ عليه، وبعبارة أخرى: هو يرى أن هذا القول الذي أتاك به لازم لقولٍ آخر يُسمَّى دليلاً.
فيصح لنا إذاً أن نجعل هذا القول الذي أوردناه في المثال – أعني: الحياة عبثية – نتيجة؛ لأننا نفترض أن القائل قد أتى بدليل، وإلا فقد انتهت محاكمة قوله عند الخطوة الأولى آنفة الذكر، ودليله هو قوله: ” أجهل الحكمة من الحياة”.
إذاً لدينا قولان يحتملان الصدق أو الكذب ميزناهما عن بعضٍ، أحدهما دليل، والآخر نتيجة، وهذا هو الفرز المطلوب منك في الخطوة الثانية. - الخطوةِ الثالثةِ وهي أنْ تسألَ: هلِ الدليلُ ثابتٌ في نفسِهِ أمْ لا؟ وأقصدُ بالدليلِ في هذا السياقِ: ما يعتمدُ عليهِ المدَّعِيُ في إثباتِ مُدَّعَاه، وينتقلُ منهُ إليهِ.
مثالُ ذلكَ أنْ يقولَ قائلٌ: الإسلامُ دينٌ وثنيٌّ؛ لأنَّ المسلمينَ يعبدونَ الكعبةَ. فهوَ أرادَ منكَ تصديقَ ادِّعائِه الذي يَنسبُ فيه الوثنيةَ إلى الإسلامِ، وهذه هي النتيجة لدليل أتى به لكنَّه غير ثابت! فالمسلمونَ لا يعبدونَ الكعبةَ، بلْ إنَّ عبادةَ الكعبةِ تُخرِجُ المسلمَ من الإسلامِ، فكيفَ يدّعِي عبادتَهم لها؟! - الخطوةُ الرابعةُ: في حالِ تأكُّدِك من وجودِ دليلٍ ثابتٍ، انتقلْ إلى السؤالِ عنِ العلاقةِ بينَ الدليلِ والنتيجةِ، بمعنى هلْ يلزمُ منْ ثبوتِ الدليلِ ثبوتُ النتيجةِ أمْ لا؟
فأحيانًا يُستدلُ بحقيقةٍ ثابتةٍ في نفسها لكنَّها لا تستلزم النتيجةِ المُدَّعاةِ، ومثالُ ذلكَ هوَ مثالُنَا في الخطوةِ الثانيةِ؛ فإنَّ الذي ادَّعَى أنَّ الحياةَ عبثيةٌ قدْ استدلَّ على ذلكَ بجهلِه بالحكمةِ، لكنْ هلْ يلزمُ مِنْ جهلِه بها عدمُ وجودِها؟!
بالطبعِ لا، فجهلُهُ بالشيءِ لا يعني عدمَ ذلكَ الشيءِ! وإذا انتفى التلازمُ بينَ جهلِهِ بِهِ وعدمِهِ لمْ يكنِ استدلالُهُ صحيحًا.
فإن ادَّعى وجود الملازمة بين ما زعمه دليلاً وتلك النتيجة التي يريد إثبات صدقها، فهو في الحقيقة قد جاء بدعوى أخرى جعلها جزءًا من الدليل الموصل لما يدَّعيه، ولأنها غير مسلَّمة هو مطالبٌ بإقامة الدليل عليها لكونها تفتقر إلى ذلك، والدعوى هي: “كل ما أجهله لا وجود له” فحصل عنده لإثبات مطلوبه مقدمتان ونتيجة.
المقدمة الأولى: الحكمة من حياتي لا أعلمها.
المقدمة الثانية: كل ما لا أعلمه لا وجود له.
النتيجة: إذاً الحكمة من حياتي لا وجود لها.
فثبت أن الاستدلال باطل لكذب المقدمة الثانية بدلالة الواقع، حيث إنه يجهل أشياء مع علم غيره بثبوتها قطعاً.
واعلم – حفظك الله – أن بطلان الدليل المعين لا يستلزم بطلان القول الذي يراد منك تصديقه، فقد يكون هناك قولٌ حق لكنَّ الدليل العقلي المقام عليه باطل إما لعدم ثبوت مقدماته أو لعدم استلزامها للنتيجة، وقد يكون الشيء الذي يراد العلم بثبوته أو نفيه يتجاوز طاقة الإنسان، مما يعني قصور العقل عن إدراك وجود أو انتفاء كثير من الأشياء.
الكاتب: مهند جازي
التصميم: قمر القصاب