السؤالُ:
ما الحكمةُ من برِّ الوالدينِ؟
ألا يكونُ ظلماً إعطائهمْ كلَّ هذا الحقِّ؟
أينَ عدلُ اللهِ في أمرِ المسلمِ بطاعةِ وبرِ والديهِ وإنْ كانُوا ظالمينَ؛ وظلمُهُمْ مصدرُ شقاءٍ لأولادِهِمْ؟
الجوابُ:
أولًا: ذكرُ الحكمةِ من بر الوالدينِ:
- أعطى اللهُ جلَّ في علاهُ للوالدينِ حقوقًا عظيمةً وكبيرةً، وأمرَ دومًا بالإحسانِ لهم وبرِّهِمْ بعدَ الأمرِ بتوحيدِه جلَّ في علاهُ وطاعتِهِ، لِعِظَمِ الأمرِ وأهميتِهِ، فحقُّهُم أعظمُ حقٍّ بعدَ حقِّ اللهِ ورسولهِ.
- والحِكمةُ الأساسيةُ في هذا الأمرِ هيَ (عِظَمُ فضلِ الوالدينِ على الأبناءِ): منذُ كانَ الطفلُ جنينًا في بطنِ أمّهِ إلى وفاتِهِمَا، وهمَا في رحلةِ بذلٍ وعطاءٍ وتضحيةٍ. وجاءتِ الإشارةُ لهذهِ الحكمةِ في القرآنِ الكريمِ في قولِهِ تعالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان]، وقالَ جلَّ في علاهُ: (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [سورة الإسراء]، وقالَ عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [سورة الأحقاف]. فدومًا يُذكِّرنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالَى بفضلِهِمَا علينَا منذُ الصغرِ عندَ أمرِهِ لنا بطاعتِهِم، ولقد جُبِلَتِ النفوسُ على حبِّ من أحسنَ إليهَا، وتعلّقَتِ القلوبُ بمنْ كانَ لهُ فضلٌ عليهَا، وليسَ أحدٌ أعظمَ إحسانًا ولا أكثرَ فضلاً بعدَ اللهِ تعالَى منَ الوالدينِ، ولا منَّةً لأحدٍ على أحدٍ بعدَ اللهِ تعالَى كمنَّةِ الوالدِ على ولدِهِ.
ويقولُ الشيخُ الفوزانُ في الحِكمةِ من عِظَمِ حقِّ الوالدينِ: “وذلكَ لأنَّ إحسانَ الوالدينِ عظيمٌ، وفضلهما سابقٌ عميمٌ، وحقهمَا كبيرٌ جليلٌ، ولا ينكرُ ذلكَ إلا أعمَى البصيرةِ قليلُ الدينِ. فتذكرْ يا أخِي حالَ صِغَرِكَ وضعفِ طفولتِكَ، حينَ حملتْكَ أمّكَ في أحشائِهَا تسعةَ أشهرٍ وهْنًا على وهْنٍ، ومشقّةً على مشقّةٍ، تنوءُ بحملكَ، ولا يزيدهَا نُمُوُّكَ إلا ثقلاً وضعفًا، وتكديرًا عليها في طعامِهَا ومنامهَا، وعندَ ولادتِكَ رأتِ الموتَ بعينَيْهَا، وما إنْ رأتْكَ بجانبهَا حتَى نسيتْ كلَّ آلامِهَا، وعلَّقَتْ فيكَ جميعَ آمالهَا وأحلامهَا، ثمَّ جنَّدَتْ نفسَهَا لخدمتكَ ورعايتكَ، تُجَلِّلُكَ بحبّها الصادقِ، وحنانهَا المتدفقِ، وتغذِّيكَ بصحتهَا، وتقدّمُ راحتكَ على راحتهَا، وتحُوطُكَ بعنايتهَا ورعايتهَا، فطعامكَ دَرُّهَا، وبيتك حِجْرُهَا، ومركَبُكَ يداهَا وصدرُها وظهرُها، تصبرُ على صراخِكَ وبكاكَ، وتغسلُ عنكَ أذاكَ، وتحنُّ إليكَ وتهواكَ، تجوعُ لتشبعَ أنتَ، وتسهرُ لتنامَ أنتَ، وتتعبُ لتستريحَ أنتَ، فإن أصابكَ مرضٌ أو شكايةٌ، أظهرتْ منَ الأسفِ حتى النهايةِ، وأطالتْ الحُزْنَ والنحيبَ، وبذلتْ أموالهَا للطبيبْ، ولو خُيِّرَتْ بين حياتكَ وموتهَا لاختارتْ حياتكَ بأعلَى صوتهَا، تصبرُ عليك وأنت تؤذِيهَا، وتحلُمُ عنكَ وأنت تجهلُ عليهَا، تُؤَمِّلُ فيكَ آمالاً كباراً، وتدعو لكَ بالتوفيقِ سرًا وجِهَارًا”.
فلا عجَبَ من كثرةِ الوصيَّةِ بالوالدَينِ، ولا عجَبَ من كثرةِ الوعيدِ في عقوقِهِمَا. ولنْ يستطيعَ أحدٌ أن يوفِّيَ والدَيْهِ حقّهُمَا، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “لن يجزِيَ ولدٌ والدَه إلا أن يجِدَه مملوكًا فيشترِيَه فيُعتِقَه”. (رواه مسلم).
وكمَا وردَ في الأثرِ عن سعيدٍ بن أبي بُرْدَةَ عن أبيهِ قالَ: ” كانَ ابنُ عمرَ يطوفُ، فرأَى رجلاً يطوفُ حاملاً أمَّهُ وهوَ يقولُ:
إنِّي لهَا بعيرُهَا المُذلَّلْ
إنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لم أُذْعَرْ
أحملُهَا وما حملَتْنِي أكثرْ
أَتَرَى أنِي جازيتُهَا يا ابنَ عُمَرْ؟
فقالَ ابنُ عمرَ: لَا، ولَا زفرةً واحدة”. وفي روايةٍ “ولا بِطَلْقَةٍ واحدةٍ من طَلَقَاتِهَا، ولكنْ قدْ أحسنتَ، واللهُ يثيبكَ على القليلِ كثيرًا”.
فمهمَا فعلتَ ففضلُهُمْ عليكَ أكبرُ وأعظمُ، وإحسانُهُم إليكَ سابقٌ.
ومن الحِكمِ أيضًا في إعطاءِ الشريعةِ حقوقًا عظيمةً للوالدينِ: مبدأٌ عامٌّ استقرأهُ بعضُ أهلِ العلمِ، وهوَ أنَّ عِظَمَ الحقِ يتناسبُ ويزيدُ معَ كثرةِ الواجباتِ المفروضةِ، وأنَّ المغنَمَ بالمغرمِ.
لذا نجدُ أنَّ حقَّ الزوجِ عظيمٌ لما أوجبهُ اللهُ عليهِ من نفقةٍ ورعايةٍ لأسرتِهِ وغيرِ ذلكَ، فاقترنتْ هذهِ الواجباتُ بحقوقٍ لهُ ليتحقَّقَ التوازنُ النفسيُّ والمعنويُّ والعدلُ الماديُّ، وكذلكَ في الوالدينِ، فاللهُ جلَّ في علاهُ أوجبَ عليهم أمورًا كثيرةً تخصُّ الأبناءَ، وهمْ مُحاسبونَ على تقصيرهِم في أي أمرٍ يخصُّ دنياهمْ ودينهمْ، فاقترنتْ بحقوقٍ يستحقُّونها نظيرًا لهذهِ الواجباتِ والتكاليفِ المفروضةِ عليهمْ.
- فإنْ قالَ قائلٌ: ولكنَّ والدَيَّ ليسا كذلكَ، وظهرَ لي منهم ظلمٌ كبير، فما الحِكمةُ إذن؟
– فهنا نؤكِّدُ على أنَّ بناءَ الأحكامِ في الشريعةِ غالباً يكونُ على الأصلِ والغالبِ لا النادرِ.
لذا جاءَ الإسلامُ ببرِّ الوالدينِ كأصلٍ لِعِظَمِ حقِّهِمَا، ولأنَّ الغالبَ أنَّ أخطاءَ الوالدينِ مغمورةٌ في بحرِ حسناتهمْ، والغالبَ أيضًا عليهمُ الشفقةُ والنظرُ لمصلحةِ الأبناءِ. والعقلاءُ يبنونَ الأحكامَ على الغالبِ والأصلِ لا النادرِ -الذي لا ننكرُ وقوعَهُ أحياناً-، ولكنْ لا نقلِبُ الحالَ ونجعلُ النادرَ هوَ الأصلَ ونهزُّ قيمةَ الوالدينِ ونسقطُ برَّهُمْ ونجعلُهمْ موضعَ تهمةٍ غالبةٍ؛ كأنَّ الأصلَ أنهم مجرمونَ! بلْ همْ محلُّ الشفقةِ والنظرِ لمصلحةِ الأبناءِ، ولو حصلَ منهم خطأٌ فهوَ مغتَفَرٌ جانبَ حسناتهم، ولا يمنعُ ذلكَ إحقاقَ الحقِّ في حالاتِ الظلمِ النادرةِ.
ثانيًا: السؤالُ عن عدلِ اللهِ عزَّ وجلَّ:
- بدايةً نقولُ: إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالَى عدلٌ حكيمٌ في كلِّ أمرِهِ وشرعِهِ، قالَ تعالَى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)، والقسطُ: هو العدلُ الكاملُ، واللهُ تعالى هو القائمُ بالعدلِ والقسطِ في شرعِهِ وخلقهِ وجزائهِ، لا ظلمَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، بل هوَ في غايةِ الإِحكامِ والانْتِظَامِ. فلا بدَّ أنْ تثقَ أيهَا السائلُ الكريمُ في عدلِ اللهِ جلَّ في علاهُ، وتكونَ على يقينٍ أنَّ كلَّ شرائِعِهِ سبحانَهُ مبنيةٌ على القسطِ والعدلِ، حتى وإنْ خَفِيَ على أحدٍ الحِكمةُ في تشريعٍ ما؛ فأشكلَ عليهِ كيفيةُ تحقيقِ العدلِ فيهِ، فلابدَّ أنْ يُرجِعَ هذَا لجهلِهِ وضَعْفِ بصيرَتِهِ وعجزِهِ الطبيعيِّ كمخلوقٍ عن إدراكِ حِكمةِ الخالقِ العظيمِ جلَّ في علاهُ كاملةً، فلنْ نحيطَ بعلمِ اللهِ وحكمتهِ شيئًا ولوْ مثقالَ ذرةٍ، ولنْ يكونَ المخلوقُ أعلمَ من الخالقِ جلَّ في عُلاهُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. فهذا بشكل عام.
- إلَّا أننَا لو تأملنَا لوجدنَا الكثيرَ منْ مظاهرِ العدلِ والإحسانِ في التشريعاتِ الخاصةِ بعلاقةِ الوالدينِ والأبناءِ التي تدفعُ هذا الظلمَ المُتَوَهَّمَ، إضافةً لما ذكرناهُ ابتداءً من الحكمةِ في عِظَمِ حقهما وأنَّ العدلَ موجودٌ يقيناً طالما هذا أمرٌ شَرَعَهُ الله المتَّصِفُ بالعدلِ.
ومن هذه المظاهر:
- اِعتنتِ الشريعةُ *بحقوق الأبناءِ* وأمرتْ بالعدلِ والإحسانِ لهمٍ، وأكَّدَتْ على حقوقهمْ في المواريثِ وفي النفقةِ والرعايةِ والتربيةِ، وشنَّعَتْ على من يُضَيِّعُهُم، وحثّتْ على رحمتهِم ومراعاةِ نفسياتهِم، وطبَّقَ ذلكَ النبيُّ ﷺ وعَلّمَهُ وزَجَرَ عنْ خِلَافِهِ، فحقوقُهُم ثابتةٌ محفوظةٌ منذُ كوَّنَهُم اللهُ أجنةً في بطونِ أمهاتِهِمْ، فكمَا أوجبَ اللهُ على الأبناءِ برَّ الوالدينِ؛ أوجبَ كذلكَ على الوالدينِ حقوقًا للأبناءِ، وهمْ محاسبونَ إن فَرَّطوا.
- وكذلكَ جاءَ في الشريعةِ *النهىُ عنْ ظلمِ الأبناءِ*، وضمنتْ حقوقهُم في حالاتِ الظلمِ، فاللهُ تعالَى لا يُقِرُّ الوالدَ على ظلمِهِ وبغيِهِ، كما أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعدلِ بينَ الأبناءِ فقالَ: “اتقوا اللهَ، واعدِلُوا بين أولادكم” (أخرجهُ البخاريُّ ومسلمٌ).
وقد حرَّمَتِ الشريعةُ الوصيةَ لوارثٍ لتحقيقِ العدلِ التامِّ بينَ الورثةِ ومنهمُ الأبناءُ، ولا يُقَرُّ الوالدَانِ على أيِّ ظلمٍ أوْ تجاوزٍ أو تقصيرٍ في حقوقِ الأبناءِ؛ كالحرمانِ من النفقةِ أو العضلِ عن التزويجِ، وعلى القاضِي أو ولِيِّ الأمرِ أن يتدخَلَ ويرفعَ الظلمَ عنِ الأبناءِ.
- ومنَ العدلِ أيضاً: أنَّ *طاعةَ الوالدين ليستْ طاعةً مطلقةً* بلْ لهَا ضوابِطُهَا، وأنّ البِرَّ درجاتٌ؛ منهُ الواجبُ ومنهُ المستحبُّ، فليسَ كلُّ ما يأمرُ بهِ الوالدان يكونُ واجباً، وإنمَا بحسبِ الأمرِ وبحسبِ المرحلةِ العمريةِ، وطاعتُهُم تكونُ بما ليسَ فيهِ ضررٌ ولا مضارَّةٌ، ولا تجوزُ الطاعةُ في معصيةِ الخالقِ جلَّ في علاهُ وفيمَا فيهِ ضررٌ ومفسدةٌ {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، فليسَ الأمرُ على إطلاقِهِ بل فيه تفصيلٌ.
- ومنَ العدلِ أيضاً: *إباحةُ القيامِ بما يدفعُ الضررَ عنِ الأبناءِ والأذَى معَ التزامِ البِرِّ والصلةِ والإحسانِ والمعروفِ وعدمِ جوازِ المقاطعةِ أو عدمِ البرِّ*. فمثلاً يجوزُ في بعضِ الأحوالِ الاستقلالُ عنِ الأهلِ بالمسكنِ إنْ كانتْ مخالطتُهُمُ الدائمةُ تُسببُ أذىً أو مشاكلَ أو ضرراً. ويجوزُ رفعُ دعوَى قضائيةٍ على الوالِدِ إنْ قصَّرَ في النفقةِ أو كانَ عاضِلاً أي: تعسَّفَ مع ابنتهِ ورفضَ تزويجَهَا للكُفْءِ الصالحِ بدونِ سببٍ، ولمْ توجبِ الشريعةُ الصبرَ على هذا الضررِ والأذَى وعدمِ السعيِ في رفعِهِ.
يقولُ الصنعانِيُّ رحمهُ اللهُ في سبلِ السلامِ: “… وكذلكَ لو كانَ مثلاً على أبوينِ دينٌ للولَدِ أو حقٌّ شرعيٌّ فرافَعَهُ إلى الحاكِمِ فلا يكونُ ذلكَ عقوقاً. اهـ”. وجاء في “الموسوعةِ الفقهيةِ الكويتيةِ” (30/144): “ذهبَ الفقهاءُ إلى أنهُ إذا تحقَّقَ العَضْلُ من الوليِّ وثبتَ ذلكَ عندَ الحاكمِ؛ أَمَرَهُ الحاكمُ بتزويجهَا إنْ لمْ يكنِ العضلُ بسببٍ مقبولٍ، فإنِ امتنعَ انتقلَتِ الولايةُ إلى غيرِهِ.”
فالأمرُ ببرِّ الوالدينِ وطاعتهمْ لا يعنِي قَبولَ الظلمِ المؤكَّدِ الذي قدْ يفعلُهُ بعضُ الآباءِ، وهذا من تمامِ عدلِ الشريعةِ وتوازُنِهَا.
- ومنْ عدلِ اللهِ بلْ ورحمتِهِ وفضلِهِ: *إعطاءُ الثوابِ العظيمِ والأجرِ الكبيرِ على برِّ الوالدينِ*، فرغمَ أنَّ برَّ الوالدينِ أقلُّ عطاءٍ يستحقُّهُ الأبُ والأمُّ مقابلَ ما بذلُوهُ معَ الأبناءِ طوالَ حياتهمْ وإحسانِهِمْ لأبنائِهمْ، إلَّا أنَّ اللهَ جلَّ في علاهُ برحمتهِ كتبَ أجرًا عظيمًا للبارِّ بِوالديهِ؛ مثلَ مغفرةِ الذنوبِ ودخولِ الجنّةِ وإجابةِ الدّعاءِ وغيرهَا، ليعِينَنَا على الامتثالِ رحمةً منهُ وفضلاً.
وبتأمّلِ كلِّ هذهِ الأمورِ نجدُ أنَّ شريعةَ الإسلامِ حقَّقَتِ التوازنَ التامَّ والعدلَ والإحسانَ في العلاقةِ بين الوالدينِ والأبناءِ، وأعطتْ كلَّ ذي حقٍّ حقّهُ، ورفعتِ الظلمَ عنِ الجميعِ.
معَ الانتباهِ لملاحظاتٍ هامّةٍ:
الملاحظةُ الأولَى:
إنْ حصلَ ظلمٌ منَ الوالدينِ -وهذا مذمومٌ في الشرعِ وعلى القاضِي رفعُهُ إنْ أمكنَ- فهذَا لا يُسقِطُ برَّ الوالدينِ حتَّى في هذهِ الحالةِ، بلْ يجبُ البرُّ والإحسانُ إليهما مهمَا فعَلَا؛ حتَّى فيمَا تحرمُ عليكَ طاعتُهُمَا فيه كالشركِ أو ما لا تجبُ عليكَ طاعَتُهُمَا فيهِ؛ فيجبُ عليكَ رفضُ الطاعةِ بالأدبِ وبأعلَى درجاتِ حسنِ الخلقِ وبدونِ عقوقٍ أو شيءٍ مَنْهِيٍّ عنهُ كقولِ (أفْ) وغيرِهَا. ولكَ في نبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ أسوةٌ حسنةٌ؛ إذْ كانَ أبوهُ يدعُوهُ إلى الشركِ فلمْ يطعْهُ وقالَ في أدبٍ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، وكذلكَ قالَ ربُّ العالمينَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، فحتَّى إنْ أمرُوا بالشركِ لا تطعْهُمْ، ولكنْ صاحبهُم بالمعروفُ وارفُضِ الطاعةَ بأدبٍ وحسنِ خلقٍ، وليسَ هناكَ شيءٌ أكبرُ منَ الشركِ والجهادِ عليهِ وعلى تركِ عبادةِ اللهِ جلَّ في علاهُ .
– وهذَا البرُّ واجبٌ عليكَ حتَّى وإنْ ظهرَ منهمْ ظُلمٌ، لأنَّ حقوقَ الوالدينِ ليستْ حقوقَ معاوضةٍ أو مجرّدَ مقابلةٍ أو منفعةٍ متبادلةٍ فقطْ، بلْ جزءٌ كبيرٌ منهَا حقٌ خالصٌ للهِ عزَّ وَجَلَّ، أمركَ بهِ ولهُ فيهِ سبحانَهُ وتعالَى حِكمةٌ عظيمةٌ، ومَنْ أضاعَ حقَّ اللهِ فيكَ فلا تُضَيِّعْ حقَّ اللهِ فيهِ، بلِ اصبرْ واحتسبِ الأجرَ العظيمَ.
وفي هذهِ الحالاتِ (النادرةِ) يكونُ البرُّ اختبارًا وابتلاءً شأنُهُ شأنُ غيرِهِ منَ الطاعاتِ، والأجرُ يَعْظُمُ معَ المشقّةِ، وعليكَ أن تتذكرَ هذا دومًا ليُعينكَ على البرِّ، فأنتَ تطيعُ اللهَ جلَّ في علاهُ وتتقرّبُ له في شيءٍ يحبهُ سبحانهُ رغمَ مشقَّتِهِ علَى نفسكَ، فشتَّانَ بينَ من يَبَرُّ والديهِ لأجلِ إحسانهمَا، ومنْ يبرُّهُمَا امتثالًا لأمرِ اللهِ معَ ما يلقاهُ منهمَا منْ أذىً، فهذا أقربُ للتقوَى، و اللهُ لا يخفَى عليه مجاهدَتُكَ لأجلِهِ فيما ليس فيه حظٌّ للنفسِ، وهذا قريبٌ من قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا” (رواه البخاري)، فلا يتساوى عندَ اللهِ من يصلُ رحمهُ مكافأةً وَرَدًّا، وبينَ منْ يصلُهَا للهِ رغمَ ما بدرَ منهَا.
وهذا البرُّ بالمعروفِ قدْ يكونُ سببًا في صلاحِهِمَا وألَّا تزدادَ الفجوةُ بينكُمَا ويزدادَ الظلمُ؛ وهذا مُجرّبٌ، وهوَ مصداقُ قولِ اللهِ جلَّ في علاهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، تأملْ: لنْ يقدِرَ عليهَا إلَّا الذينَ صبرُوا، وعاقبَتُها خيرٌ وحظٌ عظيمٌ.
وتذكرْ أنهُ مهمَا بدرَ منْ والدَيْكَ فلا يمكِنُ أنْ يكونَ ما بينكُمْ عداوةٌ!! تذكرْ منْ كانَ سببَ وجودكَ، ومنْ رعاكَ طفلًا وأنفقَ وسهرَ عليكَ، ستجدُ فضلَهُمَا عليكَ كبيراً جداً حتَّى معَ وجودِ هذا الظلمِ في بعضِ الأمورِ، فلا تستَجِبْ لنزغاتِ الشيطانِ فإنما يريدُ أن يبعدَكَ عن الأجورِ ويوقعَكَ في العَنَتِ، بلْ أَحِبَّ والدَيْكَ المؤمِنَيْنِ وتعبّدِ اللهِ بطاعتِهِمَا فيمَا لا ضررَ فيهِ عليكَ.
وهذَا منْ عدلِ الشريعةِ وتوازُنِهَا؛ فقدْ ضمنِتْ للأبناءِ ما يدفعُ الظلمَ معَ حفظِ حقِّ الوالدينِ، وهذا ما يحصلُ معَ الأبناءِ الظالمِينَ لوالدِيْهِم.
فالشريعةُ كما حفظتْ حقَّ الأبوينِ في الصلةِ والبرِّ لمَا لهمَا من فضلٍ عظيمٍ على الأبناءِ، ولتحقيقِ مقاصدَ اجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ بينَ الناسِ لا يصحُّ تفويتهَا إذا ظهرَ منهمَا خطأٌ؛ بلْ يُعالَجُ الخطأُ على قدرِهِ معَ حفظِ الحقوقِ، فكذلكَ حفظتْ حقَّ الأبناءِ في النفقةِ وغيرهَا، ولمْ تُسقِطْ هذهِ الحقوقَ عنِ الابنِ العاقِّ؛ فعقوقُهُ لا يقَابَلُ بمفسدةٍ أكبرَ وهيَ تضيِيعُهُ وعدمُ النفقةِ عليهِ معَ ضرورةِ السعيِ في إصلاحِهِ، فالابنُ لو كانَ عاقَّا بوالِدِهِ -وهذا كثيراً ما يحصلُ- لا يجوزُ شرعاً أنْ يقطَعَ والِدُهُ عنهُ النفقةَ أو يحرمَهُ من الميراثِ إجماعاً، ولا يجوزُ عندَ عددٍ منَ الفقهاءِ أنْ يفضِّلَ الوالِدُ ابنهُ البارَّ في الهِبَةِ والعطيَّةِ على ابنهِ العاقِّ وإنْ كانُوا راشدينَ وسقطتْ نفقَتُهُمَا عنهُ.
الملاحظةُ الثانيةُ:
أنَّ هناكَ أمورًا قد يعتقدُ الابنُ أنهَا ظلمٌ منَ الأبِ وتعنُّتٌ وغيرُ ذلك، بسببِ المرحلةِ العمريةِ -خاصةً في سنِّ المراهقةِ- فقدْ يكونُ الموقفُ طبيعياً ويراهُ الابنُ بشكلٍ آخرَ ويعتقدُ أنَّ الناسَ يرونَهُ كمَا يراهُ، وبعدَ مُضِيِّ العمرِ يكتشفُ الابنُ أنَّ مَا كانَ يفعلُهُ والدَاهُ معَهُ كانَ لمصلحتِهِ وشفقةً بهِ وحرصًا عليهِ ومنْ دافعِ المحبةِ والإرشادِ، فمنْ هنَا نقولُ للسائلَ لا تتسرَّعْ في الحكمِ على نصائحِ والدَيْكَ وتُفَسِّرَهَا بنيَّةٍ سيّئةٍ، فقدْ أمرهُمُ اللهُ بنصحِكَ وإرشادكَ وحفظِ دينكَ، وهمْ محاسبُونَ على تقصيرِهِمْ كمَا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ” (رواه النسائي)، وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم].
فلِلْوَالدَيْنِ حقُّ النصحِ والتوجيهِ، ولا يسلبْهُمْ هذَا الحقَّ إلَّا منْ يَنْجَرُّ وراءَ قيمِ الحريّةِ الغربيّةِ الفاسدةِ التي تريدُ ألَّا يكونَ لأحدٍ ولايةٌ على أحدٍ ولا حتَّى الوالدَيْنِ.
وهذهِ الوصايةُ من تمامِ محاسنِ الشريعةِ؛ إذْ كَفِلَتِ الشريعةُ للأبناءِ ما يضمنُ لهمْ الرعايةَ الحسيَّةَ والمعنويةَ، ويحفظُهُم منْ كلِّ النواحِي، فكمَا أنَّ الوالدَيْنِ مأمورُونَ بتوفيرِ المأكَلِ والمشرَبِ والحاجاتِ الماديّةِ لأبنائِهِم، فهمْ مُلْزَمُونَ بالوصايةِ عليهمْ وتهذيبهمْ صيانةً لدينهمْ وأخلاقِهمْ، ولا يخفَى على عاقلٍ ما قدْ يحصلُ منْ مفاسدَ لوْ تُرِكَ الأولادُ وشأنُهُم في مراحلِ عمرِهِمْ منَ الطفولةِ والمراهقةِ وغيرِ ذلك، فأُوجِبَتْ عليهمْ طاعةُ الوالدَيْنِ لما عندهُمْ منَ الرشدِ والخبرةِ ما يقِي الأبناءَ مآلَ وعاقبةَ سوءِ التصرُّفِ والتخبّطِ في هذهِ المراحلِ العمْريةِ على وجهِ الخصوصِ.
ختاماً:
عليكَ أنْ تستحضِرَ ثِمَارَ البرِّ العظيمةَ والأجرَ الكبيرَ ليعينَكَ على امتثالِ طاعةِ اللهِ، وتسمعَ دومًا ما يُزَكِّي نفسكَ ويعينَكَ على برِّهِمَا.
فبرُّ الوالدَيْنِ:
- منْ أسبابِ إجابَةِ الدعاءِ، كمَا في قصةِ أصحابِ الغارِ.
- ومنْ أسبابِ تكفيرِ الكبائِرِ، لِمَا جاءَ عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه منْ سؤالِ الرجلِ الذي قتلَ وجاءَ يسألُ عن تكفيرِ ذنبِهِ فقال لهُ: ألكَ أمٌّ؟
- ومن أسبابِ دخولِ الجنةِ، فعنْ أبِي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: “رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ”. (رواه مسلم).
- ومنْ أسبابِ البركةِ وزيادةِ الرزقِ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” (رواه البخاري).
- ومن أسبابِ برِّ الأبناءِ والحصولِ على رضَا اللهِ والبعدِ عن سخطِهِ إلى غيرِ ذلكَ.
فالمسلمُ عليهِ أنْ يستحضِرَ الثوابَ في الآخرةِ وطبيعةَ الدنيا وأنهَا دارُ بلاءٍ في هذهِ المواقفِ، ولا ينظرَ للحقوقِ بنظرةٍ مادّيّةٍ بحتةٍ أو أنَّ عطاءَهُ وإحسانَهُ يجبُ أنْ يقابَلَ بمنفعةٍ، بلْ حتَّى في الأرحامِ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “ليس الواصلُ بالمكافِىءِ ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا انقطعتْ رحمُه وصلَها”، فما بالُنَا بالأبَوَيْنِ وما لَهُمَا منْ أفضالٍ كثيرةٍ خاصةً في المراحلِ العمريةِ الصغيرةِ؟
فلا بدَّ أنْ يستحضِرَ المسلمُ هذا الأمرَ، فربمَا كانَ هذَا ابتلاؤُهُ في الدنيا وسببُ دخولِهِ الجنةَ، خاصةً إذا كانَ فعلُهُ خالصاً للهِ عزَّ وجلَّ وامتثالاً لأمرِهِ وحدَهُ.
وقمْ بسماعِ حلقاتٍ عنْ برِّ الوالدينِ لأحدِ المشايخِ والدعاةِ؛ لعلَّهَا تعينُكَ على الامتثالِ.
وعليكَ أنْ تتأمَّلَ في التشريعاتِ المتعلقةِ بعلاقةِ الوالدينِ والأبناءِ كاملةً؛ ليتَّضِحَ لكَ حسنُ الشريعةِ وعدلُهَا:
فالشريعةُ اهتمَّتْ بمَا يحقِّقُ استقرارَ الأسَرِ وتَرَابُطَهَا وبثَّ الطمأنينَةِ والسكينةِ فيهَا، ومنْ ثُمَّ استقرارُ المجتمعِ بأسرِهِ، وأعطتْ كلَّ ذي فضلٍ ما يستحقُّهُ وهذَا يقوِّيهِ على العطاءِ الذِي يحتاجُهُ الأبناءُ إضافةً لمَا فيهِ منْ عدلٍ، وضمنَتْ للأولادِ مَا يحتَاجُونَهُ لاستقامَةِ حياتهِمْ ومعاشِهِمْ في كافةِ جوانبِ الحياةِ، ومنعَتِ الظلمَ على الأبناءِ وكذلكَ العقوقَ بالوالدينِ، وحثَّتْ على القيَمِ الفاضلةِ منِ احترامِ الكبيرِ والعطفِ والحنوِّ على الصغيرِ، فكانَ العدلُ والتوازنُ والإحسانُ وصيانةُ الحقوقِ وضمانُ تلبيةِ الحاجاتِ، فللهِ الحمدُ والمنةُ على فضلهِ وعدلهِ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
الكاتب: فريق عمل قسم الأحكام الشرعية
المراجعة: د. طارق بن طلال عنقاوي
التدقيق اللغوي: إبراهيم محمد