الحمدُ للهِ تعالى وحدهُ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَ بعدهُ..
يتساءلُ البعضُ عن عدمِ حفظِ ربِّ العالمينَ للكُتبِ السابقةِ؛ كالإنجيلِ والتوراةِ والزبورِ، ولسانُ حالِ بعضِهم يتساءل:
ألم تكُن تلكَ الكُتبُ كلامَ اللهِ كالقُرآنِ الكريمِ؟ فلماذا القُرآنُ دونًا عن غيرهِ محفوظٌ؟
وما ذنبُ أهلِ الكُتبِ السابقة؟
وإن شاءَ ربُّ العالمينَ نحاولُ معًا إزالةَ اللبسِ عندَ المُستشكلينَ محاولينَ تسليطَ الضوءِ على نقاطٍ قد لا ينتبهُ لها البعض..
وجديرٌ بالذكرِ أن بعضَ غيرِ المُسلمينَ -لا سيما أهلِ الكتاب- قد يُثيرونَ تلكَ التساؤلاتِ بغيةَ إحراجِ المسلمِ وقلبَ دعوى تحريفِ تلكَ الكُتبِ عليهِ، وبناءً عليهِ نذكُرُ أن تلكَ التساؤلاتِ والأجوبةَ عليها لا تُشكِلُ فرقًا في ثُبوتِ تحريفِ تلكَ الكُتبِ كما لا تُشكِلُ فرقًا في حقيقةِ حفظِ القُرآن، ويضيقُ المقامُ هنا عن ذكرِ دلائلِ تحريفِ الكُتبِ السابقةِ، وعلى العاقلِ أن يتبعَ ما ثبتَ أنه الحقُ المحفوظُ، ويكونُ سؤالهُ عن عدمِ حفظِ ما سواهُ من بابِ التعلمِ والتأملِ لا الشكِ والتذبذب..
هذا الموضوعُ نتناولُ الردَ عليهِ بإذنِ اللهِ تعالى من خلالِ أربعةِ محاور:
١– لماذا الحفظ؟
٢- لا خوفٌ عليهم.
٣- وإن تتولوا يستبدل.
٤- فلماذا القُرآن؟
- أولًا: لماذا الحِفظ؟
قد يتبادرُ للأذهانِ من هذا العنوانِ أنه يتناولُ سببَ حفظِ القُرآن، ولكن حقيقةً هو تساؤلٌ آخر، وصيغتهُ: لماذا يحفظُ اللهُ تلكَ الكُتب؟
لا جدالَ في أنها كلامُ اللهِ العليِّ القدير، ولكن نحنُ في هذهِ الدُّنيا نُبتلى ونُختبر، ومن اختبارِ الأممِ السابقةِ تكليفُهُم بحفظِ كلامِ ربهم، قالَ ربُ العالمين: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: ٤٤}..
فالسؤالُ الصحيحُ: لماذا لم يحفظوا ما أكرمهُم بهِ الله؟
لماذا بدلوا نعمةَ اللهِ كفرًا؟
لماذا افتروا على اللهِ الكذب؟
لا يوجدُ في قوانينِ العقلِ ما يُوجبُ على الخالقِ أن يحفظَ للناسِ الكُتبَ التي كُلِّفوا بحفظِها؛ بل قد آتَاهُم ربُهم الكتابَ، فمنهم من ظلمَ نفسهُ ومنهم من أحسن، وقد ابتلوا، وسيجزيهم اللهُ يومَ القيامةِ بما كانوا يعملون، وماذا عليهم لو آمنوا واتقوا وأحسنوا؟
هؤلاءِ ظلموا أنفسهُم، ولو أحسنوا لوجدوا خيرًا، قالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: ٤٤].
- ثانيًا: لا خوفٌ عليهم:
قد يتساءلُ البعضُ عن ذنبِ أولئكَ الذينَ وصلتهم تلكَ الكُتبُ على ما هي عليهِ من تحريفٍ، فما ذنبُهم والحقُ لم يصل إليهم؟
إن اللهَ سُبحانهُ لم يخلُقنا لتلكَ الدنيا، وإنما هي مرحلةٌ قصيرةٌ عابرة، والآخرةٌ هي دارُ القرار، وإن هؤلاءِ لا ذنبَ عليهم، قد قالَ سبحانهُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر: ١٨].
وهؤلاءِ الذين وصلتهُم تلكَ الكُتبُ بين حالينِ، إما جاءهم نبيٌّ، أو بلَغهم الحقُ الذي جاءَ به خاتمُ النبيين، وهؤلاءِ وَجبَ عليهم اتباعُ الحقِ وقد أدركوهُ وأدركهم، وليسَ لمتخلفٍ بعدَ البيانِ حُجة، قالَ تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: ١٦٥]..
وإما يكونونَ من أولئكَ الذينَ لم يأتِهم رسولٌ أو لم يبلغهُم الحق، ولم يكُن لهم سبيلٌ لمعرفتهِ، وفي مثلِ هؤلاءِ قال جلَّ وعلا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رسولًا } [الإسراء: ١٥]..
وهؤلاءِ في اعتقادِنا لهم اختبارٌ خاصٌ يومَ القيامةِ، يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: “وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ: فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَقْوَالٌ؛ أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ: أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ، وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ.”
انتهى، باختصارٍ من “الجوابِ الصحيحِ لمن بدل دينَ المسيح”.
فلا خوفٌ على الناسِ، وإن اللهَ أولى بالعدلِ من خلقهِ، فلا يقلقنَ عبدٌ مخافةَ أن ينالَ الظلمُ أحدًا من الناسِ في الآخرةِ، وقد قالَ سُبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: ٤٧].
- ثالثًا: وإن تتولوا يستبدل:
من سُننِ اللهِ أن من تولى عن نصرةِ الحقِ؛ استبدلَ اللهُ بهِ غيره، كما قالَ سُبحانه في سورةِ محمد: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، وقد تولى من كلَّفهم ربهُم بحفظِ كُتبهم، وافتروا على اللهِ الكذبَ، فأرسلَ اللهُ رسولهُ إلى أُمةٍ لا تُبدل؛ بل تنصرُ الحقَ وتبذلُ في سبيلهِ كُلَ غالٍ ونفيس، وإن اللهَ إذا أرادَ شيئًا هيأ لهُ أسبابهُ، وقد كان الصحابةُ سببَ حفظِ كتابِ اللهِ بإذنِ اللهِ وفضلِه، وذلكَ بعدَ أن استشهدَ عددٌ كبيرٌ من القُرَّاء، فجمعَ الصحابةُ القُرآنَ، وقامَ على جمعهِ لجنةٌ من صفوةِ القُرَّاء..
نعم.. اللهُ حفظَ القُرآن، وكان الصحابةُ سببًا، وكذلكَ مَن بَعدهم، والسؤالُ: لماذا لم يفعل السابقونَ مثلما فعلَ الصحابة؟
إن اللومَ على من فرَّطَ وأفرطَ وحرَّفَ وبدَّل، ولننظر معًا إلى حرصِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم على حفظِ القُرآن:
عن زيدٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: « أرسلَ إليَّ أبو بكرٍ مقتلَ أهلِ اليمامةِ وعندَه عمَر، فقالَ أبو بكرٍ: إنَّ عمرَ أتاني فقالَ: إنَّ القتلَ قدِ استحرَّ -أيِ اشتدَّ وكثُرَ- يومَ اليمامةِ بالنَّاسِ، وإنِّي أخشى أنْ يَستَحِرَّ القتْلُ بالقرَّاءِ في المواطنِ، فيذهبَ كثيرٌ منَ القُرآن، إلَّا أنْ تجمعوه، وإنِّي لأرى أنْ تجمَعَ القرآنَ، قالَ أبو بكرٍ: قلتُ لعمرَ: كيفَ أفعلُ شيئًا لمْ يفعلْه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؟، فقالَ عمر: هو واللهِ خيرٌ، فلمْ يزلْ عمرُ يراجعُني فيهِ حتَّى شرحَ اللهُ صدري، ورأيتُ الذي رأى عمرُ. قالَ زيد: وعمرُ عندَه جالسٌ لا يتكلَّمُ، فقالَ أبو بكرٍ: إنَّكَ رجلٌ شابٌّ عاقلٌ ولا نتَّهمُك، كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمَعْه. فواللهِ لو كلَّفني نقْلَ جبلٍ من الجبالِ ما كانَ أثقلَ عليَّ ممَّا أمرني به مِنْ جمعِ القرآن، قلتُ: كيف تفعلانِ شيئًا لم يفعلْه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟، فقالَ أبو بكرٍ: هو واللهِ خيرٌ، فلمْ أزلْ أراجعُه حتَّى شرحَ اللهُ صدري للذي شرحَ اللهُ له صدرَ أبي بكرٍ وعمر، فقمْتُ فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعُه من الرِّقاعِ والأكتافِ والعُسُبِ وصدورِ الرِّجال، وكانتِ الصُّحفُ التي جُمعَ فيها القرآنُ عندَ أبي بكرٍ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عندَ عمرَ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عندَ حفصةَ بنتِ عمرَ» رواه البخاري.
- رابعًا: لماذا القُرآن؟
سبقَ القولُ بعدمِ لزُومِ حفظِ الكُتبِ السابقةِ، وأن من وُكلوا بحفظِها كانَ عليهم أن يفعلوا، فلماذا لم يكُن ذلكَ مع القُرآنِ الكريم؟
١- المسلمونَ اختُبروا في الأمرِ، وقد يسرَ اللهُ تعالى أن يكونوا سببًا لحفظِ كتابهِ، ولو شاءَ اللهُ لأنزلَ ملائكةٍ بنُسخٍ من القُرآنِ لا يقربُها إنسٌ ولا جان، ولكن أن يحفظَها ربنا بجعلِ الناسِ سببًا لهذا دلالةٌ على أن من سبقوا خانوا الأمانة، ولو فعلوا مثلما فعل الصحابةُ لأفلحوا، ولكانَ خيرًا لهم.
٢- كانت تلكَ الكُتبُ لأقوامٍ بعينهم وفي أزمنةٍ معينةٍ، بينما شاءَ اللهُ أن يكون نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلم هو النبيُّ الخاتم، والقُرآنُ هو آخرُ الكُتبِ الذي به يصلُحُ كُلُ زمانٍ ومكانٍ إلى أن تقومَ الساعة، ومن ثُم كانَ في حفظِ القُرآنِ إبقاءٌ لوحيِ اللهِ بين الناسِ؛ كي لا تغيبَ حُجةُ اللهِ على خلقهِ، ولا يضيعَ الهدى ويخفى عن الناسِ، وفي ذلك فضلٌ من اللهِ ورحمة، وهو سُبحانهُ العليمُ الحكيم.
خلاصةُ القولِ: على مريدِ الحقِ التفتيشُ عن البراهينِ، ومن ثم يتبعُ الحقَ حين يتبينَ له، ولا يضرهُ تحريفُ كُتبٌ سابقةٍ قد وكَّلَ اللهُ حفظها إلى أُناسٍ حرَّفوا وبدَّلوا ولم يفعلوا مثلَ الصحابةِ الذين بذلوا الوسعَ لحفظِ القُرآنِ الذي وعدَ ربُّ العالمينَ بحفظهِ؛ إذ هو الكتابُ الخاتمُ الذي نزلَ على النبي الخاتم صلى اللهُ عليهِ وسلم.
قالَ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩].
جزاكم الله خيرا