الحمدُ للهِ تعالى وحدَهُ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لا نَبِيَّ بعدَهُ.
في ظلِّ آياتِ الوعيدِ للعصاةِ والكفارِ؛ يتساءلُ البعضُ عن وجودِ حرّيّةِ الاختيارِ عندَ الإنسانِ التي يزعُمُ وجودَها المؤمنونَ، فيقولُ المتسائلُ: إنْ كُنتُ مُتَوَعَّداً بعقابٍ بعدَ الفعلِ، فأينَ حرّيّتِي في الاختيارِ التي تزعمُونَهَا؟
وحقيقةً قدْ يكونُ كافياً تسليطُ الضوءِ على ضبطِ المفهومِ وتبيِينِ مرادِ المؤمنِ، ولكنَّ خلفَ هذا التساؤُلِ مسائِلُ أخرى قد يَحْسُنُ الإشارةُ إليهَا، ولذلكَ سيكونُ تناولُ الجوابِ دائراً حولَ ثلاثةِ محاورَ:
- ١- مفهومُ حرّيّةِ الإرادةِ.
- 2- حرّيّةٌ متوهّمَةٌ، وغيابُ المعيارِ.
- 3- مقتضَى العدلِ والحكمةِ.
معَ العلمِ أنَّ عامّةَ الكلامِ سيكونُ موجّهَاً أساساً للمؤمنِ بربّهِ المستشكِلِ هذا السؤالَ؛ فمنْ لا يؤمِنُ يكونُ الحديثُ معهُ في غيرِ ذلكَ منَ الأصولِ أولَى.
أولاً: مفهومُ حرّيّةِ الإرادةِ:
وهنا سيظْهَرُ الخَلْطُ بينَ مفهومِ حرّيَّةِ الإرادةِ الذي يقصِدُهُ المؤمنُ؛ وحرّيّةِ الاختيارِ التي يتساءلُ عنهَا المعترضُ، فمفهومُ حرّيّةِ الإرادةِ يُرَادُ بهِ القدرةُ على الاختيارِ بينَ الخيرِ والشرِّ..
قالَ تعالَى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [سورة المدثر]، وقالَ جلَّ وعلا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف].
فإنَّ القدرةَ على الاختيارِ بينَ الطاعةِ والمعصيةِ أو بينَ الإيمانِ والكفرِ؛ هوَ ممَّا يستطيعُهُ الإنسانُ بما وهبهُ اللهُ من تلكَ القدرةِ، والناسُ يعرفونَ من أنفسهِمْ حرّيّتَهُمْ تلكَ وهمْ مُقبِلُونَ على أيِّ فعلٍ، وتلكَ القدرةُ ليستْ عندَ جميعِ الخلقِ، فالملائكةُ قالَ اللهُ عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم].
وأمّا ما يقصدهُ المستشكلُ هوَ أنْ يفعلَ الإنسانُ ما يريدُ دونَ الخوفِ منَ العاقبةِ. وهذا في الحقيقةِ مفهومٌ يستندُ إلى ثقافةٍ ليبرَالَيَةٍ لا يقصدُهُ المؤمنُ، ولا ينبغِي لهُ أنْ يقصدَهُ أو يقولَ بهِ لا سيمَا حينَ يتحدّثُ عن أفعالِ الإلهِ سبحانهُ، وَسَيَتَبَيَّنُ بإذنِ اللهِ في النقاطِ التاليةِ لماذَا لا ينبغِي ذلكَ؟
ثانياً: غيابُ المعيارِ وحريّةٌ مُتَوَهَّمَةٌ:
إنَّ اللهَ هوَ خالقُ كلِّ شيءٍ، ومنْ ثمَّ فهوَ أعلمُ بمَا يصلحُ الناسَ، وهوَ أعلمُ وأحكمُ من جميعِ خلقهِ، وبالتالي فلا ينبغِي تحكيمُ أفكارِ وفلسفاتِ النّاسِ على الوجودِ كلِّهِ وذلكَ كقولِ: ينبغِي للإنسانِ أنْ يكونَ حراً حريّةً مطلقةً بلا خوفٍ من عاقبةٍ..
هذا الكلامُ يجعلُ أهواءَ الناسِ مكانَ ربِّ الناسِ، ومعاذَ اللهِ أنْ يكونَ هذا أبداً؛ فلا بدَّ أنْ يُستَمَدَّ المعيارُ الذي نزنُ بهِ الأمورَ منْ وحيِ خالقِ النّاسِ؛ فمنْ خلقَ الناسَ أعلمُ بما يصلحهُمْ..
قالَ تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك].
ومَنْ تأمَّلَ حالَ الناسَ سيعلمُ أنَّ الحريّةَ المطلقةَ وَهْمٌ، وإنَّ كلَّ مجتمعٍ يضعُ معاييرَ وضوابطَ يعاقِبُ بهَا مَنْ خالَفَهُم حتى في أكثرِ البلادِ التِي تطبِّقُ مبدأَ حريَّةِ الفردِ كما في المفهومِ الليبرالِيِّ..
فهلْ يمتنِعُ حرقُ علمِ دولةٍ وأنتَ فيهَا ولكنْ يحقُّ أنْ لا تعبدَ ربّكَ وأنتَ في كونِهِ؟
هل يمتنعُ مخالفةُ قانونِ دولةٍ أو لائحةِ شركةٍ تعملُ بها ولكنْ لا يحقُّ لخالقِكَ أنْ يُشَرِّعَ لكَ ما تنضبطُ بهِ حياتُكَ؟
هل يحقُّ للدولِ عقابُ من خالفَ القوانينَ ثمَّ يتعجّبُ متعجّبٌ من الجزاءِ الأُخْرَوِيِّ؟
إنَّ هذهِ التأملاتِ الواقعيةَ اليومَ ليستْ هيَ المعيارَ الرئيسَ لعقيدةِ ضرورةِ الجزاءِ والحسابِ الأخرويِّ، وليسَ حالُ الدولِ المعاصرةِ اليومَ هوَ الإلهامُ العقليُّ والوحيُ القلبيُّ لنَا، ولكنْ هذهِ إضاءاتٌ لمنْ يرَى ضرورةَ الالتزامِ بقوانينِ البشرِ ثمَّ يستكبرُ عن قانونِ ربِّ البشرِ وأحكمِ الحاكمينَ.
ثالثاً: مقتضَى العدلِ والحكمةِ:
إنَّ كلَّ ذرَّاتِ الكونِ وزوايَا الآفاقِ وأطيافِ اختلافِ النّاسِ والبشرِ، تنطقُ صباحَ مساءَ أنَّنَا لم نكنْ هنَا عبثاً، وإنَّ الخالقَ المُتَّصِفَ بالكمالِ المطلقِ والمنزَّهَ عنِ النقصِ العليمَ الحكيمَ؛ قدْ وضعنَا هَا هُنَا لغايةٍ لا لغفلةٍ وانغماسٍ في الأهواءِ.
يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [سورة المؤمنون]، وقالَ سبحانَهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [سورة ص].
إنَّ القدرةَ على الاختيارِ تَقْتَضِي حساباً، والنّاسُ بينَ تقيٍّ وفاجرٍ، وبينَ مصلحٍ ومفسدٍ، ولا يستوِي هذا وذاكَ في ميزانِ العدلِ، وليستِ المساواةُ من الحكمةِ، والظلمُ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعهِ، ومنْ ثمَّ كانَ العقلُ موافقاً لما في النقلِ منْ منطقيّةِ وجودِ اليومِ الآخرِ، وموافقةِ ذلكَ لحكمةِ وعدلِ اللهِ، وإلَّا لأفلتَ الظالمُ بفعلهِ، ولضاعَ حقُّ المظلومِ إلى الأبدِ، وقدْ قالَ جلَّ وعلَا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} [سورة الأنبياء].
خاتمةٌ:
..وموجزُ القولِ في ذلكَ السؤالِ أنَّ حريّةَ الإرادةِ هيَ القدرةُ على الاختيارِ، وليستْ هيَ حريّةُ الاختيارِ بلا خوفٍ من عاقبةٍ، وعلى الإنسانِ أن يدركَ قَدْرَهُ وأنّهُ مخلوقٌ عبدٌ لربِّهِ مالكِ الملكِ، وإنَّ الذِي يخضَعُ لنُظُمٍ يضعهَا النّاسُ لا ينبغِي لهُ التعجُّبُ من وجودِ تشريعٍ يحاسبُهُ عليهِ ربُّ الناسِ، وإنَّ الحسابَ هوَ مقتضىً لعدلِ وحكمةِ اللهِ الذي لمْ يخلقهُم عبثاً ولا يتركهُم سدىً، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ الرّحمنِ الرّحيمِ، مالكِ يومِ الدينِ.