يقولُ قائِلٌ: لماذا يَطلبُ اللهُ منَ البشَرِ عبادتَهُ؟
ولا يَخرجُ السّائلُ عنْ أنْ يكونَ مُلحِدًا أوْ مُؤمِنًا. أمّا الملحِدُ فيَرُدُّ لإثباتِ وجودِ اللهِ وكمالِهِ -سُبحانَهُ وتعالى- ثمَّ ننتَقلُ معَهُ إلى حيثُ نبدَأُ معَ مؤمنٍ يَسألُ ذلكَ السؤالَ:
– أنْسَنَةُ الإلهِ والطّلبُ لحاجةٍ:
يقعُ السّائلُ -عندَ طَرحِهِ ذلكَ السؤالَ- في مُغالطةٍ واضحةٍ وهيَ تُمثِّلُ أفعالَ البشرِ وقياسَ أفعالِ اللهِ عليها، وذلكَ بلا شكٍّ خلَلٌ واضحٌ.
فقدْ نتَّفقُ أنَّ غالِبَ طلَبِ البشرِ لا يكونُ إلا لحاجةٍ، وذلكَ طبيعيٌّ إذْ نحنُ مخلوقاتٌ مُفتقِرةٌ، بِنا حاجةٌ، لكنَّ الخالقَ هو الغنيُّ، لا يحتاجُ لأحدٍ مِنْ خلقِهِ، بل يمتَنِعُ احتياجُهُ لأحدِهِم عقلًا إذْ هوَ خالِقُ الخلقِ فهوَ في تمامِ كمالِهِ وغِناهُ أزلًا مِنْ قبلِ أنْ يكونوا.
وهلِ البشَرُ فعلًا لا يَطلبونَ إلا لحاجةٍ؟
الواقعُ يخبِرُنا خِلافَ ذلكَ، فقدْ تَطلُبُ الأمُّ مِن صغيرِها فتْحَ فاهْ لتُطعمَهُ وهوَ المحتاجُ لا هيَ، أوْ يطلبُ مُحسنٌ مِن سائلٍ مدَّ يَديهِ ليُحسِنَ إليهِ والسائِلُ هوَ المحتاجُ، وقد يَطلبُ الأبُ منْ صغيرِهِ أن يحتَرمَهُ، والأبُ في غنىً عنْ صغيرِهِ، لكنَّ دافعَ الطّلبِ هُنا هو استِحقاقُ الأبِ للاحترامِ وحبُّ الأبِ لابنِهِ وحرصُهِ على مصلحَتِهِ.
فإنْ كانَ كلُّ ذلكَ يمكِنُ تصوّرُهُ في حقِّ المَخلوقِ القاصِرِ، فبداهةً ما يُتصوَّرُ في حقِّ اللهِ أعظَمُ.
أمّا اللهُ فهوَ الغنيُّ -سبحانهُ- وكلُّ خلقِهِ إليهِ مُفتقِرٌ، لا يفعَلُ إلا لحكمَةٍ، علِمَها الإنسانُ أو جَهِلَ.
وبذلكَ نكونُ قد فكَكْنا الارتِباطَ بينَ طلَبِ العبادةِ واحتياجِ اللهِ -سبحانهُ وتعالى- لَها.
– أإلٰهٌ معَ اللهِ؟
نتحدّثُ هُنا عنِ الإنسانِ الذي أصابَهُ الكِبْرُ، فظنَّ في نفسِهِ قدرةً تامّةً على الإحاطةِ بأفعالِ خالقِهِ.
السّؤالُ عن طلَبِ العبادةِ مُرتَبطٌ ارتِباطًا وَثيقًا بالحِكمَةِ، فاللهُ سبحانَهُ وتعالى لا يفعَلُ إلّا لحكمَةٍ.
والحِكمةُ مُرتبِطةٌ بالعِلمِ، ولا شكَّ أنَّ إدراكَ الإنسانِ لحكمَةِ قَرينِهِ من بَني البشَرِ لا تتّسِعُ إلا بقَدْرِ إحاطتِهِ بعِلمِهِ. فأنا لا أُدرِكُ الحِكمَةَ مِن وَصفِ الطّبيبِ دواءً مُعيَّنًا، إلا إنْ علِمتُ تَشخيصَهُ وفِعلَ ذلكَ الدّواءِ في الجِسمِ. وكذا الأمرُ في كلِّ أحوالِ الإنسانِ: عاجزٌ عنْ إدراكِ حِكمةِ ما لمْ يُحِطْ بهِ عِلمًا. فإدراكُنا للحِكمَةِ يكونُ على قدْرِ عِلمِنا بتفاصيلِها.
ويَلِحُّ سؤالٌ هُنا: هل يَستطيعُ الإنسانُ الإحاطةَ التامّةَ بالحكمَةِ مِن أفعالِ خالِقهِ؟
والحقُّ أنَّ الجوابَ واضحٌ، لمْ يَدْعُ الإنسانَ للمجادلَةِ فيهِ إلّا غرورُهُ الشّديدُ، فمُذْ وضَعَ الإنسانُ نفسَهُ في المركزِ وجعَلَ -بُهتانًا وزُورًا- كلَّ شيءٍ يدورُ مِنْ حَولِهِ، وقدْ أعمى الغرورُ بصيرَتَهُ، فظَنَّ الإنسانُ أنّهُ يَملكُ مِنَ العلمِ ما هوَ للهِ، والصّوابُ أنَّ البَونَ شاسِعٌ والهُوَّةَ عَميقةٌ عميقة. بلْ لا مقارَنَةَ تَنعقِدُ ولا بَونَ ولا هُوّةَ تتَّسعُ.
تخيّلْ معِي لو أنَّ إنسانًا أرادَ أن يُحيطَ بجميعِ علومِ أهلِ الأرضِ، أيَقدِرُ؟
فما بالُكَ بعِلمِ اللهِ سبحانَهُ، وكلُّ علومِ أهلِ الأرضِ ليسَتْ شيئًا فيهِ!
ولِيتّضِحَ المثالُ فقِسْ قدرَتَكَ إلى قُدرةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، أنتَ العاجِزُ عنْ أنْ ترفَعَ حِمْلًا بسيطًا، وربُّكَ الذي يمسِكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تَزولا!
قدرَتُكَ إلى قُدرَتِهِ، كعِلمِكَ إلى عِلمهِ، وحِكمَتِكَ إلى حكمتِهِ.
إنَّ الإنسانَ حينَ يَتناسى كُلَّ ذلكَ ويطلُبُ الحكمَةَ التّامّةَ مِن أمْرِ اللهِ لهُ بعبادَتِهِ، فإنّهُ يجعلُ مِنْ نفسِهِ إلٰهًا معَ اللهِ، لهُ مِنَ العلمِ ما لَهُ، يقدِرُ على الإحاطَةِ بعلمِهِ ومَعرفَةِ كُلِّ حكمَةٍ مِن فِعلِهِ. وأنَّى للمسكينِ ذلكَ!
– وهلِ العبادةُ واجِبةٌ عليّ؟
فإنْ كانَ اللهُ لا يَطلُبُ عَبادتَنا لحاجَتِهِ إليها، فلِماذا هيَ مفروضَةٌ عليَّ إذَن؟
يسألُ الإنسانُ ذلكَ مُتناسِيًا موقِعَهُ منَ الكونِ، مُتَلبِّسًا ببعضِ الغرورِ.
أنتَ يا أخي مَخلوقٌ للهِ مِن عدَمٍ، كنتَ بعدَ أنْ لمْ تكُنْ، وذلكَ وحدَهُ يقتَضِي أنْ تكونَ عبدًا للهِ، مُفتقِرًا إليهِ في معرفةِ أدِقِّ أمورِكَ، طائِعًا لهُ فيما أمرَكَ، مجتَنِبًا ما نهاكَ.
عبادتُكَ للهِ هيَ مُقتَضى خالِقيَّتِهِ وكمالِهِ -سبحانهُ وتعالى- ومُقتضَى مخلوقِيَّتِكَ لهُ وحاجَتِكَ إليهِ.
لذا فكلُّ المَخلوقاتِ تَعبدُ ربَّها “وإنْ مِنْ شيءٍ إلّا يُسبِّحُ بِحَمْدِهِ” فتلكَ المَخلوقاتُ كلُّها تُدرِكُ استحقاقَ ربِّها للعبادَةِ، غيرَ أنَّ الإنسانَ مِنْ بينِها هوَ مَنْ يَعقِلُ ويَختارُ، فأصابَهُ الغرورُ وأعْماهُ الكِبْرُ.
لا تظُنّنَّ أنكَ نَشازٌ عن ذلكَ التّناغُمِ الكونِيِّ الجميلِ -ربٌ يَخلُقُ ويُنعِمُ ويَرزُقُ، ومخلوقاتٌ تَعبدُ وتُطيعُ- بل أنتَ مخلوقٌ كغيرِكَ، غيرَ أنَّ اللهَ تَكرَّمَ عليكَ ووهبَكَ مشيئةً وحُرّيَّةَ اختيارٍ، وتلكَ نِعمةٌ يَختبرُكَ اللهُ بها. أتكونُ النِّعمةُ إذنْ سببًا لجَحْدِ المُنعِمِ؟
– ما أوجُهُ الحِكمَةِ إذنْ؟
البحثُ في أوجُهِ الحكمةِ متَّسعٌ، بحرٌ لا يدرِكُ الإنسانُ شطَّهُ، ومهما عَبَّ الإنسانُ مِنهُ عبَّا فما فاتَهُ أوسَعُ.
ونحنُ إذْ نُعدِّدُ بعضَ أَوجُهِ الحكمَةِ، فلا نتوَهّمُ الإحاطَةَ بها، ولا نَعدُّها مِعيارًا للعبادةِ متى غابَ أبَيْنا، إنّما ننطَلقُ في تلكَ السّبيلِ مُسَلِّمينَ للهِ بكمالِ حكمَتِهِ وعلمِهِ، مُتوَاضعينَ لهُ، مُقِرّينَ بقِصَرِ عقولِنا وعَجزِها عنِ الإحاطةِ، مُستعينينَ بهِ ليُعلِّمَنا ما يُهدِّئُ من فَورةِ تَساؤلاتِنا، ويُطَمئِنُ قلوبَنا، ويكونُ عونًا لنا على عملٍ يُرضِيهِ عنّا.
فنقولُ أنَّ اللهَ هوَ المُستحِقُّ للعبادةِ بكلِّ أشكالِها وأسمى أنواعِها، قَسرًا واختيارًا، وكما تبَدَّتْ عظمَتُهُ في عبادةِ المخلوقاتِ لهُ جَبرًا، فقدْ تَبَدَّتْ في عبادَتِهم لهُ اختِيارًا.
وبعبادةِ المخلوقاتِ ربَّها تتَّضِحُ آثارُ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ، فهوَ الغفورُ يَغفرُ لمَنْ أخطَأَ ويَعفو عمَّنْ أنابَ، وكذَا يُعاقِبُ مَن أساءَ وجاوزَ وبَغى. وتلكَ آثارُ صِفاتِ اللهِ تَبدَّتْ في خلقِهِ، فلا نقولُ أنَّ ذلكَ سببٌ لكمالِهِ، إنّما هوَ مُقتَضى كمالِهِ سُبحانهُ وتعالى عُلوًّا كبيرًا.
وعبادةُ اللهِ اختيارًا تكريمٌ للإنسانِ ونِعمَةٌ منَ اللهِ ومِنةٌ، إذ هيَ طريقُهُ إلى الجنةِ ونَعيمِها الأبَديِّ.
وبعبادةِ اللهِ يرتاحُ الإنسانُ ويَطمئنُّ ويهدَأُ قلبُهُ، يَعرِفُ موقِعَهُ منَ الحياةِ ودَورَهُ فيها، يُدرِكُ أنهُ مخلوقٌ لهدَفٍ أسمى مِنْ نِزاعاتٍ دُنيويَّةٍ غَثَّةٍ، وأنَّ لهُ ربًّا لا يَتركُهُ همَلًا بلْ يَهدِيهِ ويُرشِدُهُ كلَّ خطوَةٍ في حياتِهِ يَخطوها مُهتدِيًا بوَحيٍ من ربِّهِ، يقودُ سَيرَهُ، فلا يَضِلُّ أو يَشقى ولا هوَ يَقعُ في تِيهٍ وفراغٍ رُوحيٍّ مُضْنٍ كالذي نراهُ.
– أهُوَ جِدُّ عَسيرٍ؟
هُنا نتَحدّثُ عنِ الإنسانِ الذي يَجهلُ نفسَهُ وواقعَهُ؛
إنسانٌ يَظنُّ العبادةَ حِملًا ثقيلًا يَنوءُ بهِ ويُضنيهِ حِمْلُهُ.
والحقُّ أنَّ اللهَ لطيفٌ رحيمٌ ييَسِّرُ على عبادهِ، يَقبَلُ منهُم يَسيرَ العمَلِ ما خَلُصَ لوجهِهِ. جعَلَ الحسنَةَ بعشْرِ أمثالِها ويَزيدُ، والسّيِّئةَ بمِثلِها. يغفِرُ لمَنْ تابَ ويَعفو عمَّن أنابَ، يقبَلُ توبةَ عبدِهِ ويفرَحُ بها. أرسلَ الرّسُلَ فوَضَعوا لنا سبيلًا قوِيمًا، نتَّبِعُهُ فنَنجو.
لمْ يَتركِ الإنسانَ مُستكشفَ طريقِهِ في الدّنيا بلْ أنارَ لهُ ودلَّهُ على الطّريقِ، وأعطاهُ جوَابًا عن كُلِّ أسئلةِ اختِبارِهِ.
ثمَّ بعدَ كُلِّ ذلكَ، فهوَ لا يكلّفُ نفسًا إلّا وُسعَها ولا يُحاسِبُ الإنسانَ على ما خرجَ عنِ اختيارِهِ. فأينَ العُسْرُ في كلِّ ذلكَ اليُسرِ!
وأينَ صعوبةُ التّكاليفِ -ولا يخلو تَكليفٌ مِنْ بعضِ صُعوبةٍ إذْ تلكَ طَبيعتُها- التي لا تَهونُ أمامَ كلِّ ذلكَ اللُّطْفِ الإلهيِّ!
هلْ يَهلَكُ بعدَ كلِّ ذلكَ إلّا مَن قادَ -نحوَ الهلاكِ- نفسَهُ بنَفسِهِ؟
مِن رحمَةِ اللهِ أنْ جعَلَ طريقَ النّجاةِ بَيِّنًا ميَسَّرًا، لا يحتاجُ طاقاتٍ جبّارةً ولا قدُراتٍ غيَر طبيعيةٍ، يُحسِنُهُ كلُّ مَنْ صدَقَ وَجَدَّ. أمّا مَنْ تكبّرَ وأعرضَ فلا يُغني عنهُ ذلكَ مِنَ اللهِ شيئًا.
– خِتامًا: مَن يحتاجُ مَن؟
يقولُ الشّيخُ فريد الأنصاريُّ: ذلكَ أنَّ كلمةَ (إلٰهٍ) في أصلِ الاستعمالِ اللُّغَويِّ كلمةٌ قلبيّةٌ وِجدانيَّةٍ، أعني أنَّها لفظٌ منَ الألفاظِ الدّالّةِ على أحوالِ القلبِ كالحُبِّ، والبُغضِ، والفرحِ، والحُزنِ، والأسى، والشَّوقِ، والرَّغبَةِ، والرَّهبةِ… إلخ، أصلُها قَولُ العربِ “أَلِهَ الفَصيلُ يألَه ألَهًا” إذا ناحَ شَوقًا إلى أمّهِ. والفُصيلُ=ابنُ النّاقةِ إذا فُطِمَ وفُصِلَ عنِ الرَّضاعِ، يُحبَسُ في الخيمةِ، وتُتْرَكُ أمُّهُ في المَرعى، حتّى إذا طالَ بهِ الحالُ ذكرَ أمّهُ وأخذَهُ الشَّوقُ والحنينُ إليها -وهوَ آنَئذٍ حديثُ عهدٍ بالفِطامِ- فناحَ وأرْغَى رُغاءً أشبَهَ ما يكونُ بالبُكاءِ! فيقولونَ “أَلِهَ الفصيلُ” فأمّهُ إذنْ ههُنا هيَ إلٰهُهُ بالمعنى اللُّغَوِيِّ أي: ما يَشوقُهُ.”
أنتَ يا صاحِبي بحاجةٍ إلى رَبِّكَ، فكما لا تَستغني عنهُ في رِزقِكَ ومُعافاتِكَ، لا غِنى لكَ عنهُ في تَشوُّقِكَ وتوَجُّهِك.
دعْ عنكَ عباءةَ الغُرورِ تلكَ، وضَعْ عنكَ رِداءَ الجدَلِ، وتدثَّرْ بدِثارِ التّواضُعِ، وعُدْ لربِّكَ الرحيمِ الوَدودِ.
يا صاحِبي ليسَتِ القضيّةُ ترَفًا فِكرِيًّا، ولا مسألةً عقليّةً جامِدةً نتداوَلُها فيفرَحُ أحَدُنا بانتصارِهِ، ولا يُحالِفُ الآخرَ حظًّا، إنّما هوَ إيمانٌ وعمَلٌ، جنّةٌ أو نارٌ. فدَعْ عنكَ بريقَ كِبْرِكَ إنّهُ خدَّاعٌ، سائلٌ، زائِلٌ، أجوَفُ. وعُدْ إلى ربِّكَ الحَيِّ الواحدِ الأحَدِ الصّمَد.
الكاتب: يوسف محسن
القراءة الصوتية: ماهر القيسي