أنا طالبة علم ولله الحمد ، بحاجة لتوجيهكم لأني أحيانًا في دعوتي ومحاولات إصلاحي لبعض الصديقات .. ترد علي بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( استفتِ قلبك )
وأن هذا الحديث تتخذه أصلًا لديها ، وكل ما تريد فعله تستفتِ قلبها ثم تعمل الذي تهواه .. وقلبها يقول لها أن الحرام حلال أحيانًا !!
فكيف أردّ عليها في هذه الشبهة بالذات، وبشكل عام ما الطريقة المُثلى في محاورة مثل هؤلاء الأشخاص .
الجواب :
بخصوص الشبهة المذكورة :
نقول :
إن مَن يتخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم :” استفتِ قلبك ” ذريعة لاتباع الهوى والاختيار بالتشهي بين الأقوال، وارتكاب المحظور والمنكرات؛ وقع في عدد من الأخطاء، أبرزها :
- الخطأ الأول:
تفسير الحديث تفسيرًا خاطئًا.
فالحديث الشريف ليس معناه الإعراض عن الأدلة الشرعيّة أو الاختيار بالتشهي بين الأقوال، أو إنزال الحرام منزلة الحلال، وإنما الحديث يُفهم منه الورع كما قال بهذا كثير من أهل العلم :
قال ابن القيم رحمه الله:
“لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : “استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك” .
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا ، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار) .
والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه ، وسكون النفس إليها” انتهى من “إعلام الموقعين” (4/254) .
ولذلك جاء في روايات أخرى ذكرها الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: “استفت نفسَك” قلت: كيف لي بذاك؟ قالَ: “تدعُ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك، وإنْ أفتاك المفتون” وفي رواية أخرى بلفظ: “ما أنكر قلبُك فدعه” وفي بعضها بلفظ: “إذا حاك في صدرك شيءٌ فدعه”.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول:
“من أحسن ما يستدل به على هذا الباب ـ يعني سد الذرائع ـ ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن حمى الله معاصيه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه” وهو حديث صحيح, ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”, وهو حديث صحيح أيضًا، وقوله صلى الله عليه وسلم: “الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس” وهو حديث حسن، وقوله صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك المفتون” وهو حديث حسن أيضًا “.
كما أن هذا الحديث لمن كان قلبه سليما لا مريضا مُصابا بالوساوس والأمراض.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
“(الإثم ما حاك في نفسك) أي : تردد وصرت منه في قلق (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك متردداً فيه وتكره أن يطلع عليك الناس .
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد ، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً ، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه ، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن” انتهى .
“شرح الأربعين النووية” (صـ 294 ، 295) .
قال القرطبي رحمه الله :
” لكن هذا إنما يصح ممن نوّر الله قلبه بالعلم، وزين جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا في قلبه، كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمة” .
- الخطأ الثاني:
الاستناد إلى دليل واحد والإعراض عن باقي الأدلة والنصوص الشرعيّة المُحكمة، وهذا يحيد بنا عن الحق .
فلماذا يغفل هؤلاء عما يُوجب علينا اتباع الأدلة الشرعيّة وسؤال أهل العلم الثقات كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؟
وأين هم كذلك من النصوص التي تُحذر من اتباع الهوى كقوله تعالى :{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} وقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ،وقوله تعالى:{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}
وأين هم من النصوص التي تحُذر من القول على الله بغير علم، ومعلوم أن اتباع القلب في الإباحة والتحريم بغير علم من التقول على الله بغير علم.
يقول تعالى :{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }، ويقول تعالى :{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
فالشرع الذي جاء بـ ” استفتِ قلبك” – إن صحت الرواية – هو الذي أمر بلزوم اتباع الدليل الشرعيّ وعدم الخيرة فيه، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا}، وأمر باتباع الدليل من قرآن وسنة، ولو عارض ذلك ما في القلب وهذا وارد، فليس كل قلب مريدا للحق {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
والناظر إلى هذه النصوص مجتمعة تتضح له الصورة كاملة ويعرف أن الواجب على المسلم المُقلد والذي به تبرأ ذمته ردّ كل حُكم شرعيّ إلى الله ورسوله، ومعرفة مرادهما فيما خفي عليه بسؤال أهل العلم الذين يثق في علمهم وديانتهم، ولا يصح أن يختار بجهل وهوى بين فتاوى راجحة ومرجوحة، وعلماء أتقياء وغير أتقياء، وآخرين متعالمين، أو أن يرد بقلبه الأدلة الشرعيّة والنصوص الواضحة.
فإن حاك في صدره ما أفتى به العلماء الثقات قد يحتاط لدينه وأمره ويترك ما حاك في صدره،وإن اختلفت عليه أقوال العلماء الثقات لا يرجح بينها بالهوى بل عليه اتباع قواعد معينة.
إذًا مجال العمل بالحديث ومحله: عند خلو الدليل أو عند تعارض الأدلة وعدم وجود مُرجح، فحينها يكون قلبك هنا مُرجح للورع في ذلك.
أما عن التعامل معهن بشكل عام :
فنرى أختنا الكريمة أن تبادري الشبهات والإشكالات لديهن بتأصيل الثوابت، ودعوتهن لما فيه تزكية النفس وزيادة الإيمان.
اتفقن على الاستماع إلى بعض سلاسل الرقائق وتزكية القلوب وتابعي معهن، قمن بعمل جدول للطاعات وانتظمن عليه، اشتركن في بعض الدورات العلمية التأصيلية الهادفة، وشجعيهن على قراءة بعض الكتب النافعة ككتاب زخرف القول والتسليم للنص الشرعي وغيرهما مما يزيل هذه الشبهات ويؤصل الثوابت .
واستعيني بالله عز وجل واطلبي منه العون والمدد، نسأل الله عز وجل أن يفتح عليكِ وأن ينفع بكِ الإسلام والمسلمين، وأن يهدي بكِ وينفع بكِ أينما حللتِ.
والله أعلم ،،