السؤال:
يتكرر سؤال ، يقول صاحبه :
لماذا لا يوجد في الشرع حرية لارتكاب الذنوب بخاصة التي لا حد فيها ولا قصاص ؟ وما سبب أن يكون هناك مسؤولية للغير عليك بحيث يحق لهم أن يمنعوك من تلك المعاصي؟ أين الحرية في هذا الأمر؟
الجواب:
سنورد الجواب تحت خمس نقاط إن شاء الله :
- التسليم بأن لله عز وجل الطاعة المطلقة فيما أمر به.
- الحرية الحقيقية في العبودية لله وحده، وتفكيك وهم الحرية المطلقة.
- إجابة سؤال: هل الشرع يمنع حرية ارتكاب المعاصي؟
- لماذا أمرت الشريعة بإنكار المنكر؟
- اهتمام الشرع بتنمية الوازع الديني في نفس الإنسان.
النقطة الأولى : التسليم بأن لله عز وجل الطاعة المطلقة فيما أمر به .
الله عز وجل له الحكمة البالغة، لم يترك عباده هملًا بلا أمر ولا نهي، بل أنزل لهم شريعة تحكم تصرفاتهم، وله سبحانه الحكم والطاعة المطلقة، وهذا من معاني ربوبيته, كما قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، فكما أن الخلق له فالأمر أيضًا له، وعلينا التسليم، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
النقطة الثانية : الحرية الحقيقية .
الحرية الحقيقية للإنسان هي في أن يكون عبدا لله وحده, وهي غاية خلق الإنسان وأصل وجوده، وبها يتخلص من عبودية هواه ويتحرر من أسر رغباته, وإلا كان عبدا لهواه ولغير الله وهو يظن أنّه تحرر.
ومن هنا نعلم أنّ طاعة الله والتسليم لأمره وقبول حكمه هو من صميم عبوديته, ومن صميم الحريّة من عبودية من هو سواه, وإذا علم العبد ذلك لم يقع في قلبه ضيق من أنّ حريّته تقيّدت بأمر الله وحكمه.
ثم إنّ هاهنا سؤالاً يطرح نفسه: هل توجد حرية مطلقة في أي نظام اجتماعي؟
العقلاء يتفقون على أن جزءًا من حرية الإنسان لا بد له من تقييد، ولا يستقيم أي نظام اجتماعي بحرية مطلقة لأفراده، فكل نظام يضع قيودًا معينة للحرية وفق مرجعيته، فقيود الحرية فى الليبرالية غير الماركسية، وهكذا، حتى في أكثر النظم الليبرالية تحرُّرًا.
وحتى قولهم “أنت حر ما لم تضر الآخرين” وزعمهم أن هذا هو القيد الوحيد، لا يستطيعون الالتزام به، وفي الواقع يضعون قيودًا للحرية فى أشياء لا تضر إلا الشخص نفسه، كتجريم المخدرات، وتجريم زنا المحارم ولو برضى الطرفين، وتجريم التعدد ولو برضى الزوجتين، فالجميع متفق على وضع سقف للحرية.
وثمّة سؤال آخر مهم: من يحدد هذه الحدود ؟
الغرب يضع قيوده رجال القانون، يضعونها وفق مبادئ عامة، لذلك نجدها متغيرة غير ثابتة لأنها من وضع البشر.
أما المسلمون فمرجعيتهم هي شريعة الله التي أكملها سبحانه, وهي أحسن حكم, كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}, ومن درس وقارن عرف ذلك عمليا، فعليه, علينا أن لا نأخذ قيمنا ونضبط تصرفاتنا إلا بشريعة الله التي فيها سعادة الدارين، كيف لا وهو خالقنا و أعلم بما يصلحنا, كما قل جل وعلا: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
ثم إنّ قيود الحرية في الشرع تأتي وفقًا للضروريات الخمس فى الإسلام، وهي: حفظ الدين، والعقل، والنفس، والعرض, والمال. وحفظ الدين مقدم في الإسلام على كل شيء، ونحن ندرك أن غيرنا لا يجعل للدين اعتبارًا, بل الاعتبار الأول لحفظ النفوس والأموال مثلًا، فكلنا متفقون في مبدأ سقف الحرية لكننا مختلفون في ذلك السقف، والسبب أننا ننطلق من رؤية للوجود مركزها عبودية خالق هذا الوجود، وأعظم حق فيها هو حقه، وعندنا البراهين العقلية والنقلية على ذلك، وهو مرجع حقيقي مطلق، بينما غيرنا ليس له مرجع حقيقي مطلق، بل هي نسبيات لا تنضبط ولا تمثل حقائق قطعية حاكمة مهيمنة.
وبناء على ما سبق, فإنّ كل من استساغ منع شخص من ممارسة فعل يخصُّه لأجل حماية دنياه ودنيا الآخرين، فيلزمه من باب أولى أن يقبل منع شخص من فعل يضر دينه ودين الآخرين, ويفسده ويفسدهم ويضر بآخرته وآخرتهم.
النقطة الثالثة : هل الشرع يمنع حرية ارتكاب المعاصي؟
لا شكّ أنّ الشرع يمنع المعصية إذا ظهرت, ويوجب إنكارها, وهذا واضح مما سبق من الشرح, وعليه أدلة كثير منها:
قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان”. رواه مسلم. والحديث جاء عامًّا يشمل ما فيه حدٌّ وما ليس فيه.
-قول النبي عليه الصلاة والسلام: “مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً”. رواه البخاري.
وهذا يدل على أن مشروعية النهي عن ارتكاب المعاصي مما يَعني الإنسان ويُهِمُّه، لما فيه من مصلحة عامة وخاصة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته، الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيّته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، -قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤولٌ عن رعيته- وكلّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته”. رواه البخاري ومسلم.
كل هذا يوضح أن الأصل وجود تغيير المنكر ومنعه حتى فى غير الحدود والعقوبات المنصوص عليها.
فالشريعة قررت أصل الإنكار وراعت تفاصيله وضوابطه، وأهل العلم وضعوا ضوابط للإنكار بعد جمع النصوص، ومن هذه الضوابط :
- أن لا يترتب على الإنكار منكر أعظم.
- وأن يكون الإنكار سرًّ إذا كان صاحب المنكر متسترًا ليس معلنًا له ، وغيرها من ضوابط
يمكن مراجعتها من هذا الرابط :
اضغط هنـــــا
النقطة الرابعة : لماذا أمرت الشريعة بإنكار المنكر؟
في إنكار المنكر مظهر من مظاهر هيمنة الدين وظهوره, وفيه دفع لضرر المعاصي, فالمجاهرة بالمعاصي لها ضرر كبير على الفرد والمجتمع ،
أما على الفرد:
فإنه يحمّل نفسه أوزارًا مضاعفة بتطبيعها وتشجيع الناس على فعلها، قال عليه الصلاة والسلام: “وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ”. رواه مسلم.
وأما على المجتمع:
فالمجاهر ينتج عن فعله إشاعة الفواحش، والتجرؤ على المعاصي، وإفساد دين الناس، ومن أهم مقاصد التشريع والولاية حفظ دين الناس، فالدين عندنا مقدم على كل شيء، وإصلاح دين الناس ومنع ما يفسده أولى الواجبات، ففيه فلاح دنياهم وآخرتهم.
وحتى المتستر يجب على ذويه ومن له ولاية خاصة عليه تقويمه ونصحه ودعوته ولا يترك، وهذا من النصح وإرادة الخير له.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعدُّ من خيرية هذه الأمة وفضائلها كما قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
النقطة الخامسة: اهتمام الشرع بتنمية الوازع الديني في نفس الإنسان.
الشريعة لم تجعل المانع من ارتكاب المعاصي الرقابة الخارجية فقط، بل اهتمت بتنمية الوازع الديني بالترغيب والترهيب الأخروي، والأصل أن الإنسان يمتنع عن المعاصي إرضاء لله وخوفًا من عقابه وليس خشية الناس، ومن مقاصد العبادات تنمية الوازع الديني وتقوية الصلة بين العبد وربه، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
وهذا مما يجعل الشريعة مختلفة عن القوانين الوضعية التي تعتمد على الرقابة الخارجية فقط بدون التفات بتربية الضمائر.
وبهذا يتم الجواب, والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد.
مقالة: الرد على شبهة أن الإلزامات الشرعيّة ستؤدي إلى وجود منافقين.