إن الإيمان بالله وكماله قضية حياتية مركبة من مكونات كثيرة متضافرة فيما بينها، يقوم منهج الاستدلال والإثبات فيها على أسس عقلية ضرورية، ويستند إلى مبادئ وجودية واجتماعية متنوعة.
فالمؤمنون ينطلقون من أن كل ما يتعلق بوجود الله وكماله لا يمكن إثباته عن طريق الإدراك الحسي المباشر؛ لأن الله -تعالى وجل – لم يره أحد في الدنيا، وإنما الاعتماد الكلي في إثبات وجوده سبحانه وإثبات أصول الكمالات له على العقل السليم والفطرة المستقيمة، ثم ما جاء به الخبر الصادق عن طريق الأنبياء في توسيع البيان عن كمالاته سبحانه.
والاقتصار في إثبات وجود الله على الدليل العقلي، والاستناد إلى الدليل الخبري في معرفة التفاصيل المتعلقة بالذات الإلهية، لا يعد خارجًا عن نسق المعرفة الإنسانية، بل هو جار على المنهج الصحيح في تحصيلها وبنائها، فمن المعلوم أن الإنسان لا يمكنه أن يدرك كل الموجودات بالحس المباشر، وإنما يدرك بعضها فقط، فالموجودات بالنسبة للإنسان نوعان: موجودات محسوسة، وموجودات غائبة عن حسه، وهي التي تسمى: الغيبيات، والموجودات الغيبية متفرعة إلى قسمين:
- الأول: غيب لا يمكن للإنسان أن يصل إليه بقدراته العقلية؛ لانقطاع كل السبل الموصلة إليه، فهذا النوع من الغيبيات إن لم يوجد خبر يدل عليه، فإنه لا يصح إثباته، ومن أمثلة هذا النوع: ما في الجنة من نعيم، وما في النار من عذاب، وما في يوم القيامة من أهوال، وغيرها، فهذه الغيبيات لو لم يرد فيها الخبر الصادق عن الرسول ﷺ فإنه لا يمكننا العلم بها.
- الثاني: غيب يمكن للإنسان أن يصل إليه بقدراته العقلية، وهو يشمل كل الأمور الغائبة عن الحس التي لها آثار في الوجود، فيـستدل العقل بالآثار على وجود أصل تلك الموجودات، وقد يتعرف على كثير من تفاصيلها.
وهذه المنهجية في تحصيل العلم بالموجودات ليست خاصة بالقضايا الدينية، بل هي منهجية شاملة لكل أصناف المعرفة الإنسانية، وهو طريق شامل لجميع المعارف التي يتعامل بها البشر في حياتهم، يقول البروفيسور أ.ي. مانديز في بيان أهمية الاستدلال العقلي المعتمد على الحواس وضرورته في بناء المعرفة الإنسانية: “إن حقائق الكون لا يدرك بالحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر… هناك وسيلة، وهي الاستنباط أو التعليل، وكلاهما طريق فكري، نبتدئ به بواسطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: إن الشيء الفلاني يوجد هنا، ولم نشاهده مطلقا” .
وفي بيان حقيقة هذا المنهج والإشارة إلى أهميته يذكر الغزالي أن الموجودات “منقسمة إلى محسوسة، وإلى معلومة بالاستدلال لا تباشر ذاته بشيء من الحواس، فالمحسوسات هي المدركات بالحواس الخمس كالألوان، ويتبعها معرفة الأشكال والمقادير، وذلك بحاسة البصر، وكالأصوات بالسمع، وكالطعوم بالذوق، والروائح بالشم، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والبرودة والحرارة، والرطوبة واليبوسة بحاسة اللمس، فـهذه الأمور ولواحـقها تباشر بالحـس، أي: تتعلق بها القوة المدركة من الحواس في ذاتها.
ومنها: ما يعلم وجوده ويستدل عليه بآثاره ولا تدركه الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا تناله، ومثاله هذه الحواس نفسها، فإن معنى أي واحدة منها هي القوة المدركة، والقوة المدركة لا تحس بحاسة من الحواس، ولا يدركها الخيال أيضا.
وكذلك القدرة والعلم والإرادة، بل الخوف والخجل والعشق والغضب، وسائر هذه الصفات نعرفها من غيرنا معرفة يقينية بنوع من الاستدلال لا بتعلق شيء من حواسنا بها”.
وبناء على التقرير السابق فإن الأمور الموجودة في الخارج ثلاثة أنواع:
- الأول: أمور يمكن العلم بها عن طريق الحس المباشر، وتسمى: المحسوسات.
- الثاني: أمور لا يمكن العلم بها بالحس المباشر، ولكن يمكن العلم بها بالقياس إلى المحسوسات عن طريق العقل، وتسمى: المعقولات.
- الثالث: أمور لا يمكن العلم بها بالحس المباشر، ولا يمكن العلم بها بالقياس إلى المحسوسات، وليس من سبيل للعلم بها إلا الخبر الصادق، وتسمى: المسموعات.
وكل ما يتعلق في علمنا بالوجود الإلهي من ثبوت الكمالات له يندرج ضمن النوع الثاني والثالث، فتحصل مما سبق أن الإيمان بوجود الله وكماله قائم على الدلالات العقلية الإثباتية، التي تنطلق في إثبات نتائجها على المقدمات اليقينية الثابتة بالضرورة الحسية أو غيرها من الضرورات.
فالمؤمنون بالله تعالى وكماله ينطلقون من العلم الإثباتي، وليس من العلم المنفي، فهم لا يقولون: إنا لم نجد دليلا يعارض وجود الله فآمنا به، ولا يقولون: إن المخالفين لنا لم يثبتوا بطلان ما نؤمن به فلهذا نتمسك به، ولا يتوسلون إلى إثبات صحة إيمانهم بالاعتماد على المجهول، وإنما ينطلقون في بناء إيمانهم على الأدلة الإثباتية التقريرية الوجودية، فسواء وجد المخالف أو لم يوجد، وسواء اعترض المخالف أو لم يعترض، فكل ذلك لا علاقة له بدلالة الأدلة العـقلية التي يقيمها المؤمـنون على صحة إيمانهم بالوجود الإلهي وكماله.
والتقرير السابق يؤكد أن أدلة وجود الله ليست أدلة عقلية محضة، وإنما هي أدلة مركبة من مواد مختلفة، بعضها مواد مأخوذة من الحس، وبعضها مواد مأخوذ من العقل، فهي أدلة عقلية حسية معا.
وبهذا يتأكد أن الإيمان بالله تعالى ليس مجرد قضية عاطفية نفسية، وإنما هو من حيث الأصل قضية عقلية برهانية، تقوم على العقل وتنطلق من المبادئ الفطرية الضرورية.
فالإيمان بالله تعالى ليس قسيما للاستدلال العقلي، وليس مقابلا له، وإنما هما حقيقتان متلازمتان، فالعقل الضروري يدل على الإيمان بوجود الله، والإيمان بوجوده تعالى قائم على الدليل العقلي ومتداخل معه.
الكاتب: مستفادة من كتاب ظاهرة نقد الدين
التدقيق اللغوي: إسراء سيد
القراءة الصوتية: محمد النتشة
التصميم: سمية العمودي