عرض ونقد

شبهة تأخُّر تدوين السنَّة النبوية

لا يفتأ المشككون في السنة من طرح قضية تأخر تدوينها للتوصل إلى إسقاط الثقة بها، وادعاء تحريفها وضياعها.

من أهم الأخطاء والإشكالات والثغرات في استدلال المشككين بهذه الشبهة:

  1. حصر التوثيق في الكتابة، وإهمال وسائل التوثيق الأخرى.
  2. الجهل بصور العناية بالسنة في القرنين الأول والثاني.
  3. الجهل بوجود الكتابة المبكرة للحديث النبوي.
  4. التصور الخاطئ لآلية تدوين أصحاب الكتب المشهورة للسنة في القرنين الثاني والثالث. فهم يعتقدون وجود مرحلة فراغ استمرت لقرن ونصف أو قرنين، بين وقت النبي ﷺ وبين أصحاب الكتب المشهورة للسنة كالبخاري ومسلم ونحوهما، فيفترضون تعامل هؤلاء المصنفين مع أكوام من الروايات التاريخية غير الموثقة، ومن ثم لملمتها في كتبهم، وهذا في غاية المفارقة لواقع الرواية والتصنيف.

ينقض ذلك كله: معرفة آلية توثيق السنة بعد وفاة النبي ﷺ، والاطلاع التفصيلي على طريقة رواتها في التحمل والأداء، وفهم قواعد المحدثين بشكل جيد، ومعرفة صور العناية المبكرة بالسنة.

حقيقة الرد على هذه الشبهة يتمثل في أمرين يلي ذكرها على وجه التفصيل:

إثبات العناية بالسنة عبر المراحل الزمنية ؟

أولا: العناية بها زمن النبوة: 

  • ثبت عن النبي ﷺ التحذير من الكذب عليه، قال ﷺ: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»، وقال: «لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فليلج النار»، وقال: «إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». وهذه النصوص هي اللبنة الأولى التي بنى عليها المحدثون قواعدهم، كما أن فيها إشارة ضمنية إلى جواز رواية الحديث عن النبي ﷺ، لأن التحذير من الكذب عليه يُفهم منه تجويز النقل الصادق المتثبت عنه، ولو كان مرادا للنبي ﷺ ألا يُ حدثوا عنه البتة لنهى ذلك.
  • كان للوعيد النبوي الوارد في التحذير من الكذب عليه، أثر على أصحابه فَمَن بعدهم. وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي ﷺ قال: «من تعمد على كذبا، فليتبوأ مقعده من النار»، مع أن أنس بن مالك من الرواة المكثرين عن النبي ﷺ.
  • قال الرسول ﷺ: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم»، قال الخطيب البغدادي في (الكفاية): “وقد أخبر النبي ﷺ بأن في أمته ممن يجيء بعده كذابين، فحذر منهم، ونهى عن قبول رواياتهم، وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين، احتياطا للدين، وحفظا للشريعة من تلبيس الملحدين”.

فالتأسيس الأولي لعلم الحديث وقواعد التثبت مُستفاد من الشرع نفسه، ومن كلام المصطفى ﷺ، إضافة إلى التوجيه الرباني في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾.


من صور العناية النبوية بالسنة: أن النبي ﷺ كان يشجع بعض أصحابه الذين اعتنوا بأحاديثه كما في :

  • قصة سؤال أبي هريرة النبي ﷺ: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه». وهذه لفتة تشجيعية مؤيدة.
  • الحديث الصحيح: «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فربّ مبلّغ  أوعى من سامع».
  • قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، حين قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟ ورسو ل الله ﷺ بشر، يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأوما بأصبعه إلى فيه، فقال: ( اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق )».
  • ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: “ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب”.
  • حين خطب النبي ﷺ خطبة في تحريم مكة، قام رجل من أهل اليمن، يقال له أبو شاه، فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «اكتبوا لأبي شاه».
  • ثبت عنه ﷺ أنه قال: «عليكم بسنتي». وقال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري؛ مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ». وهو حديث صحيح.
  • حدّث رسول الله ﷺ وفد عبد القيس بحديث، ثم قال لهم: «احفظوه وأخبروه من وراءكم».

وفي هذه الورقة البحثية ستجد إثبات التدوين للسنَّة النبوية في كل عهد من العهود، مع أمثلة كثيرة وتخريج لروايات عديدة: ( تدوين وكتابة السنة النبوية | معتز عبد الرَّحمن ).

ثانيا: عناية الصحابة بسنة النبي ﷺ في حياته وبعد موته: 

  • تقدم ذكر حديثي أبي هريرة وابن عمر و في هذا الشأن، وحرصهما على تتبع حديث النبي ﷺ.
  • حرص الصحابة على تتبع حديث النبي ﷺ لم ينته بوفاته، كما قال البخاري في صحيحه: “باب الخروج في طلب العلم: ورحل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد”.
  • كثير من روايات الصحابة متلقاة بواسطة صحابة آخرين عن النبي ﷺ، مما يدل على عنايتهم بسماع الحديث فيما بينهم، ومن أمثلة ذلك روايات ابن عباس الكثيرة عن النبي ﷺ، مع أنه لم يسمع منه إلا أحاديث قليلة، فقد توفي رسول الله وهو شاب صغير السن.
  • لم يقتصر أصحاب رسول الله في فتاواهم وأقضيتهم على ما في القرآن بل ضمّوا إليه السنة كمصدر تشريعي، كما في:
    • القصة المشهورة التي نقلها جم عفير في شأن أبي بكر الصديق مع فاطمة الزهراء، وذلك أنها جاءته تطلب ميراثها من رسول الله ﷺ، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله ﷺ قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة». وقال:
      «لست تاركا شيئا؛ كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ».  وهذا مع أن الحكم الوارد في الحديث ليس مذكورا في القرآن،  وأنه كان في حرج من ردّ  طلب فاطمة.
  • توقف عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف، أن النبي ﷺ أخذها، فعمل بذلك، وهذا حكم عام يتعلق بالدولة الإسلامية بناه عمر على حديث سمعه من شخص واحد.
  • تجد من بعض الصحابة موقفا شديدا تُجاه المتهاون في شأن بعض السنن، كما وقع لابن عمر إذ حدّث عن رسول الله ﷺ، أنه قال: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكّم إليها» قال: فقال بلال بن عبدالله: والله لنمنعهنّ ، قال:
    فأقبل عليه عبدالله: فسبه سبّاً سيئا، وقال: أخبرك عن رسو ل الله ﷺ وتقول : والله لنمنعهن.
  • قام الصحابة بتبليغ ما سمعوه ورأوه عن رسول الله ﷺ، فهذا أحدهم يأتي بماء في إناء؛ ليعلّم التابعين وضوء النبي ﷺ. والآخر يصلي أمامهم، وما يريد بذلك إلا تعليمهم صلاة رسول الله ﷺ. كما في قصة مالك بن الحويرث.
  • كان يكتب بعضهم لبعض ما يهمهم من أحاديث رسول الله، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يكتب كتابا لأنس بن مالك، فيه مقادير الزكاة، وتفاصيل أحكامها عن رسول الله ﷺ. وكتب جابر بن سمرة إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص حديثا. وكتب عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه لعمر بن عبيد الله .
  • كان بعضهم يبلغ أحاديث النبي ﷺ في مقام عام على منبر رسول الله ﷺ. فهذا عمر رضي الله عنه قام خطيبا في مسجد رسول الله على منبره، وذكر حدّ الرجم على الزاني، وقال: ” لقد خشيت أن يطو ل بالناس زمان، حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أن زلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا وقد «رجم رسول الله ﷺ وسلم ورجمنا بعده» “.

وفي هذه الورقة البحثية ستجد إثبات التدوين للسنَّة النبوية في كل عهد من العهود، مع أمثلة كثيرة وتخريج لروايات عديدة: ( تدوين وكتابة السنة النبوية | معتز عبد الرَّحمن ).

ثالثا: عناية التابعين بسنة النبي ﷺ:

  • قال التابعي الفقيه: عروة بن الزبير: “لقد رأي تُني قبل موت عائشة بأربع حجج – يعني سنين-؛ أو خمس حجج، وأنا أقول:
    لو ماتت اليوم ما ندمتُ  على حديث  عندها إلا وقد وعيتُه”.
  • إن من أهم مظاهر عناية التابعين بسنة المصطفى ﷺ: ملازمتهم للصحابة وضبطهم لأحاديثهم:
    • تجد أحدهم يلازم الصحابي مدة طويلة، يسمع منه الحديث ويضبطه عنه، حتى تتحصل لديه خبرة خاصة بأحاديث هذا الصحابي.
    • صارت هناك دوائر من التابعين المتيقظين محيطة بالصحابة المكثرين من الرواية، ثم نجد دوائر من تابعي التابعين محيطة بدوائر التابعين، وهكذا إلى مرحلة التدوين الشامل في مصنفات السنة، وتتفاوترُتَ ب الدوائر عن الراوي الواحد، فهناك هي الأكثر ضبطا والأوثق، ثم الدائرة الثانية، ثم الثالثة..الخ.
    • إذا اختلف الرواة عن الصحابي الواحد أو عن التابعي الواحد في رواية خبر ما، فإن المحدثين يقدّمون رواية أصحاب الدائرة الأولى على من بعدهم، ويتفاوت إخراج أصحاب كتب السنة لأصحاب هذه الدوائر بحسب شرط صاحب الكتاب. كما نجد المحدثين في دقتهم يفاضلون بين أصحاب الدائرة الواحدة.
    • مثال ذلك: قال ابن رجب: ( أصحاب الزهري خمس طبقات: الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان، وطول الصحبة للزهري. الطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان، لكن لم تطل صحبتهم للزهري. الطبقة الثالثة: لازموا الزهري، وصحبوه، ورووا عنه، ولكن تكلم في حفظهم. الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري، من غير ملازمة، ولا طو ل صحبة، ومع ذلك تكلم فيهم. الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين ).


كتابة الحديث زمن التابعين:

  • كتب الدكتور محمد مصطفى الأعظمي رسالة بعنوان: ( دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه )، تتبع فيها أسماء الذين كتبوا الحديث من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فرصد ثلاثةً وخمسين في طبقة القرن الأول من التابعين وتتبع تسعةً  وتسعين تابعياً  في طبقة تابعي القرن الثاني، وهذا يدل على انتشار كتابة الحديث في زمن التابعين.
  • تولّى الخليفة التابع عمر بن عبد العزيز الاهتمام بقضية تدوين السنة، كما ذكر البخاري في صحيحه في كتاب العلم.
  • عُرف بعض التابعين بالتدقيق والتتبع والتفتيش في الأسانيد والرواة، وقد كان التابعي الجليل محمد بن سيرين من أشهر من اعتنى بذلك، وثبت عن ابن سيرين أنه قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.

وفي هذه الورقة البحثية ستجد إثبات التدوين للسنَّة النبوية في كل عهد من العهود، مع أمثلة كثيرة وتخريج لروايات عديدة: ( تدوين وكتابة السنة النبوية | معتز عبد الرَّحمن ).

رابعاً: العناية بالسنة في وقت أتباع التابعين: 

  • ظهر التصنيف وهو ترتيب الأحاديث على الأبواب، قال ابن رجب: “والذي كان يُكتَب في زمن الصحابة والتابعين، لم يكن تصنيفاً مرتباً مبوباً، إنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط، ثم إنه في زمن تابعي التابعين صُنّفت التصانيف”.

وفي هذه الورقة البحثية ستجد إثبات التدوين للسنَّة النبوية في كل عهد من العهود، مع أمثلة كثيرة وتخريج لروايات عديدة: ( تدوين وكتابة السنة النبوية | معتز عبد الرَّحمن ).

خامساً: العصر الذهبي للسنة تصنيفاً ونقداً:

  • بعد المرحلة السابقة تطورت المصنفات في السنة لتشمل أنواعاً جديدة، فابتدع البخاري جمع الصحيح من الحديث وإفراده في كتاب مستقل،  واشتبه هذا على بعض جهلة المشككين فظنوا أنه أول من جمع الحديث.
  • اجتمع في هذه المرحلة عدد كبير من أفذاذ علماء الحديث. فقد اجتمع فيه الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وغيرهم.انتشر التصنيف في الرجال ورواة الحديث وأحوالهم وبيان مسائل المصطلح وقواعد النقد.

? وفي هذه الورقة البحثية ستجد إثبات التدوين للسنَّة النبوية في كل عهد من العهود، مع أمثلة كثيرة وتخريج لروايات عديدة: ( تدوين وكتابة السنة النبوية | معتز عبد الرَّحمن ).


هذا العمل من الطالبة: ( إيمان نيروخ )، مستخلصٌ من مادة: ” شبهات حول السنَّة النبويَّة ” للشيخ: أحمد السيِّد. بتصرُّف.

الكاتب: إيمان نيروخ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى