هل حد الردة مقبول عقلًا ؟
يُجيب أ.أحمد سالم – أبو فهر السلفي – في هذا المقال على هذا السؤال، ويشرح مسألة الردة بعقلانية ، يقول :
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ،
الحمد لله وحده..
مشكلة حرية الاعتقاد والفرق بين موقف الإسلاميين المقيد بالوحي وبين موقف الليبراليين الوضعي الفلسفي،هي من المشكلات الدقيقة التي يحتاج تحريرها إلى بسط تاريخي واستدلالي.
لكني أكتفي في هذا المقال بالكلام عن الردة ومدى انسجام موقف الوحي منها مع العقل الصحيح؛لبيان أن الشريعة التي قررها الله سبحانه في الوحي هي شريعة عقلانية تفوق في سمو مقاصدها وسلامة بناءها العقلي الشرائعَ الوضعية التي يزعم الليبراليون ونحوهم أنها هي المناسبة لزماننا وأنها زبدة نتاج العقل الإنساني في العصر الحديث.
وإذا ثبت أن هذه الشريعة الثابتة بالوحي جارية على أصول العقل السليم،يمكن إثبات حسنها بالعقل= امتنع تقديم الشرائع الوضعية عليها؛ لأنه إما أن يقال إن شريعة الوحي جمعت العقل الصحيح مع كونها صادرة عن الله الخالق المدبر العليم الخبير فاجتمع لها حسنان أوجبا تقديمها، وإما أن يقال إنها شريعة ثبتت صلاحيتها بأدلة عقلية وجب على من يطعن فيها أن يرد على هذه الأدلة العقلية وأن يثبت أن الشريعة التي يستند هو إليها قامت على أصول عقلية أحسن وأوفى،أما تقديم الشرائع والقوانين الوضعية على القوانين الثابتة بالوحي مع عدم خوض هذا المعترك الاستدلالي المقارن فهو نهج غير علمي وتحيز غير موضوعي،يأباه المنهج العلمي الصحيح ويرفضه العقل الحر .
وواضح جداً أنني لن أتكلم عن عقوبة المرتد وصورتها في الشريعة وخلاف الفقهاء حولها وحول شروط إنفاذها؛إذ إن من نحاورهم ينكرون مطلق عقوبة المرتد ويرون أن فيها عدواناً على حرية الاعتقاد فناسب أن نثبت لهم معقولية هذه العقوبة وسلامة بنائها العقلي والقانوني بقطع النظر عن صورتها وكيفيتها.
وواضح جداً أيضاً أن حديثنا هنا هو مع من يرد العقوبة الشرعية لأنه يرى فيها عدواناً على القيم سواء كان يقر بأن هذه العقوبة هي شرع الله بالفعل أو كان ينازع في هذا.
فنقول :
عندنا مجموعتان من النصوص ،
المجموعة الأولى هي التي تنتظم نصوص عدم الإكراه في الدين كقوله سبحانه :
{لا إكراه في الدين}،وقوله سبحانه : {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر}،وقوله سبحانه:{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
والمجموعة الثانية هي التي تنتظم نصوص حاكمية الوحي وسلطانه وحرمة الفكاك منها كقوله سبحانه :{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}،وكقوله في الحديث الذي رواه البخاري : ((من بدل دينه فاقتلوه)).
وضربُ مجموعتي النصوص هاتين ببعضهما ومعارضة المجموعة الأولى بالمجموعة الثانية فيه مغالطة أدت إلى الغفلة عن أن المجموعتين لا تردان على محل واحد،وإنما هما تعالجان حالتين مختلفتين.
وهذه المغالطة متكررة الحدوث ومن أمثلتها ضرب نصوص السِلم في القرآن بنصوص الجهاد ،وجعل الإسلام سلم كله أو حرب كله أو اتهامه بالتناقض،بينما واقع الحال هو أن نصوص السلم لها موضع ومشروطية معينة،ونصوص الحرب لها موضع ومشروطية مختلفة تماماً.
وفي مسألتنا نجد أن المجموعة الأولى تعالج أمر الذين لم يؤمنوا بهذا الدين ولم يقروا بالالتزام بأوامره وأحكامه،فليس لحامل الرسالة الإسلامية معهم سوى الدعوة والتذكير والنصح،وليس له أن يكرههم أن يكونوا مؤمنين،والدليل على أن هذا هو المراد بآيات هذا المجموعة ظاهر جداً في دلالات ألفاظ الآيات فالآيات تتحدث عن قوم لم يؤمنوا وتمنع إكراههم على الإيمان.
وفي المقابل تتحدث المجموعة الثانية من النصوص عن قوم آمنوا وعن قوم دانوا بهذا الدين والتزموا أحكامه ،فهي تخاطب المؤمن والمؤمنة والحديث يخبر عن من دان بدين الإسلام بالفعل ،وهنا لا يسوي الوحي بين الحالتين أبداً،ويجعل حكم الذي آمنوا ودانوا بهذا الدين هو وجوب الالتزام بأحكامه وحرمة عصيانها وأنهم معاقبون إن عصوا ومعاقبون إن ارتدوا عن هذا الدين بعد أن آمنوا به وانضووا تحت لوائه.
وهذ التفريق الذي أتى به الوحي هو الذي يؤيده العقل الصحيح وتسير عليه القوانين المعاصرة،فإن إجماع القوانين والنظم المعاصرة قائم على التفريق بين من أقروا بالالتزام بالقانون وبين من لم يدخلوا تحت مظلته أصلاً،فالمقرون معاقبون إن خالفوا ومن لم يدخلوا تحت مظلة القانون فلا سلطة للقانون عليهم،والأمثلة التالية توضح ذلك :
- فلو انتخب رجل حكومة بالانتخاب الحر ،ثم أتت هذه الحكومة بعد أن استوت على سدة الحكم فشرعت قانوناً ،فجاء هذا الرجل وقال إن لي حرية عدم التزام هذا القانون بما أني كنت حراً في اختيار هذه الحكومة أصلاً = لأجمع العقلاء جميعاً على أن هذا التصرف غير جائز وعلى أن الحرية قبل الانتخاب لا تعني الفكاك من الإلزام القانوني الذي تأتي به هذه الحكومة المنتخبة.
- الانتماء بالولاء لدولة أجنبية ليس جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا كان هذا المنتمي قد سبق له الدخول تحت ولاء دولة أخرى،وحينها يكون ولاءه لدولة ثانية إشكالاً قانونياً قد يصل لحد اتهامه بالخيانة العظمى بحسب طبيعة الولاء الذي صرفه لتلك الدولة الأجنبية.
- تفرق القوانين المعاصرة بين القانون قبل أن يُسن تشريعياً فهو في هذه الحالة غير ملزم ولا يعاقب المواطن على مخالفته وتقوم المحاكم الإدارية بإلغاء أي عقوبة بنيت على أساس قانون لم يشرع بالطرق التشريعية المقررة في الدولة،أما إذا سن القانون تشريعياً وتم الإعلام به فإن المواطن يعد مقراً ضمنياً بوجوب الالتزام به ويعاقب عند مخالفته.
- تتم معاقبة الفرد الأجنبي الموجود داخل حدود دولة غير دولته بقوانين تلك الدولة لإقراره الضمني عند دخوله باحترام البلد الذي دخله وقوانينه،في الوقت نفسه الذي لا سلطة لهذا البلد عليه إن ارتكب جريمة خارج حدودها.
- يحاسب على نقض الاتفاقات والمعاهدات الدولية من دخل طرفاً فيها دون غيره.
تنبيه: مسألة الولاء للدولة أوردناها كمثال على معقولية التفريق بين ما قبل الولاء وما بعده،وبالتالي فلا يعترض بأن الدول تسمح بالتجنس بدون عقوبة لأن هذا ليس هو المحل الذي أوردنا الولاء للدولة شاهداً له،كما أن من المعقول أن تُعد الردة من باب خيانة الولاء لا من باب تغييره المباح،ولو جعلت دولة ما تغيير جنسيتها بمثابة الخيانة لكان هذا قانوناً معقولاً بقطع النظر عن وجود قوانين أخرى لا تعده كذلك فالكلام في امتناع تقبيح ذلك عقلاً.
وإذاً : فالعقل السليم شاهد على أن لصاحب السلطة القانونية الإلزامية أن يفرق في الأحكام والعقوبات بين من سبق له الالتزام بقانونه والإقرار بالخضوع له،وبين من لم يخضع لهذا القانون أصلاً.
ومن هنا فقد جاء الوحي بعقوبة من التزم بالخضوع لأحكام الشرع والانضواء تحت مظلة الإسلام إن هو أراد الردة عن الدين أو معصية أحكام الشرع،وهذه العقوبة في هذه الحالة سليمة البناء العقلي والقانوني،ولا يمكن الزعم بأن هذه العقوبة مضادة لحرية الاعتقاد ؛لأن هذه الحرية ليست مطلقة وإنما هي كحرية التملك وحرية الحركة وحق الحياة كلها حقوق وحريات يمكن تقييدها والحد منها بالقوانين التي تكون ملزمة للمنضوين تحت الإطار الإلزامي للقانون .
ولذلك :
- تقيد حرية الحركة بقوانين الهجرة والجنسية بل وبقوانين السجن.
- ويقيد حق التملك بألا يكون هذا التملك بطريق السرقة .
- ويقيد حق التصويت بألا يكون المصوت دون السن القانونية.
- ويقيد حق الحياة وينزع من الإنسان عقوبة له على انتزاع حياة غيره عمداً.
- وتقيد الحرية الجنسية في القوانين الغربية بمنع معاشرة القاصرات.
فلا يمكن إذاً الاعتراض على البناء العقلي والقانوني لعقوبة المرتد في الشريعة الإسلامية،وليس تقييد هذه العقوبة لحرية الاعتقاد بأعظم من تقييد عقوبة الإعدام في القوانين المعاصرة لحق الحياة نفسه.
وبالتالي لا يجوز الاعتراض على عقوبة المرتد بكونها مضادة لحرية الاعتقاد ؛لأن مجرد كون القانون يقيد حرية من الحريات ليس مطعناً فيه ،وإنما يكون محل النظر العقلي هو هل مصلحة تقييد الحرية بهذا القانون أعظم وأكبر وأنفع للبناء القانوني ولصالح الناس والمجتمعات أم مصلحة بقاء هذه الحرية على حالها من غير تقييد.
فإنه لا نزاع بين دعاة الحرية في أن هذه الحرية محكومة ومقيدة بعدم العدوان على الغير ،وبالتالي فإن حرية الاعتقاد لا يصح ولا يجوز أن تبلغ مبلغ العدوان على أحكام الدين التي سبق لهذا المسلم أن أقر بوجوب الالتزام به،ومن حق مشرع القانون وقتها أن يعاقبه على عدم التزامه بالقانون الذي أقر هو بأنه سيلتزم به.
والذي نزعمه ثابتاً ثبوتاً عقلياً ناصعاً هو أن مصلحة تقييد حرية الاعتقاد أعظم بكثير من من مصلحة عدم التقييد؛لأن هذا التقييد يتضمن عقوبة لمن أقر بالالتزام بأحكام الدين إذا أراد أن ينحل منها ،وعقوبة من يريد الانحلال من الأحكام التي أقر بها والتزمها لا يجادل في مشروعيتها منصف؛وإلا تلعب الناس بالأحكام ولم تكن لها حرمة،والحفاظ على الدين من العبث هو في منظومة التشريع الإسلامي لا يقل أهمية عن أهمية الحفاظ على ثوابت الانتماء الوطني من العبث.
فإن قيل : هذا رأيه فلم لا تناقشونه بالرأي ؟
قلنا : إن هذا الرأي ليس مجرداً بل هو رأي يتضمن نقض العقد الذي سبق وقطعه هذا المسلم على نفسه بالالتزام بأحكام الشريعة،ومن هنا كان من حق الطرف الثاني من العقد أن يعاقبه على نقضه لهذا العقد وفق مظلته القانونية المعلنة ؛ولذلك فإنه لو أتى رجل وتخابر لصالح إسرائيل فإن للقانون المصري معاقبته ولا يقول عاقل حينها إنه لا تجوز معاقبته لأن له رأياً مفاده أن مصر تصادر حق إسرائيل في إقامة دولتها؛لأن القانون المصري المعلن يجرم هذا التخابر ويقيد بهذا التجريم مساحة حرية الرأي هذه؛كي لا تتضمن عدواناً على حقوق الآخرين.
فإن قيل : فلم لا تقرون هذه العقوبة على المرتد من دينه إلى دين الإسلام؟
كان الجواب : أن هذا في البناء العقلي القانوني للتشريع الإسلامي متسق جداً ؛لأن خروج الإنسان عن دين آخر ليدخل دين الإسلام هو زيادة في الخير ورحمة بهذا الذي فعل هذا وهو غرض الدعوة أصلاً ولسنا مخولين بالحفاظ على المنظومات الدينية للآخرين إن اختاروا هم تركها بإرادتهم.
وبالتالي فإن تشكل الدول المحكومة بالشريعة الإسلامية من غالبية مسلمة يوجب التسامح في المعاملة مع أهل الملل الأخرى،ولا يقبل في الوقت نفسه أن يترك المسلم دينه لأن في ذلك إخلالاً بالعقد الذي عقده هذا المسلم على نفسه حين دخل الإسلام،ولا يرى إشكالاً في أن ينضم من الأقليات عدد ما لدين الأغلبية؛لأن ذلك في صالح توطيد دعائم الدولة،فوق أنه لا يخالف قانوناً أو عقداً سبق وأن التزم به هذا الذي أسلم مع الدولة القائمة المحكومة بالشريعة الإسلامية،وهذا مثل أن للدولة أن تعاقب مواطنها إن تخابر عليها لصالح دولة أجنبية وليس لها أن تعاقب مواطناً آخر إن تخابر لصالح نفس الدولة؛لأن مظلة الدولة القانونية لا تشمل هذا المواطن ولا يضر بناءها الأمني أن يتخابر لصالح دولة غير وطنه،وكذلك ارتداد الذي يدين بدين غير دين الإسلام عن دينه ولو إلى دين غير الإسلام هو شيء لا يضر البناء الاجتماعي للدولة المحكومة بالشريعة الإسلامية.
هذا ما أردنا بيانه فيما يتعلق بسلامة البناء العقلي والقانوني لعقوبة المرتد في الشريعة الإسلامية،وأنه من جنس الأبنية العقلية والقانونية التي لا ينازع في معقوليتها المؤمنون بالقوانين الوضعية.
تبقى مسألة مهمة وهي مدى معقولية عقوبة من ولد لأبوين مسلمين،ولم يختر الإسلام بإرادته.
فالمخالف يقول: لو سلمنا أن مسوغ كونه المرتد يعاقب هو أنه اختار الدين بإرادته=فلم يعاقب من كان مسلماً لمجرد أنه ولد لأبوين مسلمين؟
والجواب: أن لهذه المسألة صورتان:
- الصورة الأولى: ألا تحدث الردة إلا بعد بلوغه مسلماً وإقراره بالإيمان ولو ساعة قبل أن يرتد = فحكمه حينها حكم سائر المرتدين.
- الصورة الثانية: أن يرتد قبل بلوغه أو عند بلوغه مباشرة فلا يصدر منه إقرار بالإيمان بعد البلوغ قط.
ورغم ندرة هذه الصورة فالصواب في ذلك هو معقولية عقوبته أيضاً كسائر المرتدين ،بناء على ولادته لأبوين مسلمين ثبت له حكم الإيمان بانتسابه لهما،وإن لم يختر الإيمان بعد بلوغه،وسائر القوانين المعاصرة تعطي للطفل حكم أبويه في إثبات التجنس وفي وجوب الالتزام بالقوانين التي أقر بها أبواه،وتعاقب من لم يبلغ سن الرشد على جرائمه ،وتعاقبه عقوبة الراشد ولو ارتكب جريمته بعد الرشد بيوم واحد،وتلزمه الدول بطاعة الحكومة القائمة والتزام قانونها رغم أنه لم يشارك في اختيار هذه الحكومة؛وإنما كان هذا النمط من التعامل مع الطفل بإلحاقه بالقوانين القائمة وإن لم يخترها ومعاملته ملحقاً بوالديه؛لأن هذا هو مقتضى العدل؛إذ إنه منذ ولد وهو يأخذ جميع حقوقه لمجرد ولادته لهذين الأبوين،سواء في ذلك حقوق المواطنة كما في صورة قوانين الدول أو حقوق المسلم كما في مسألتنا محل البحث، وليس من العدل أن يفرح بحقوق استحقها لمجرد الولادة لهذين الأبوين ثم يحتج على الواجبات التي تجب عليه بهذا الانتساب.
– فإذا تقررت معقولية العقوبة على هذا الوجه=تأتي بعد ذلك النصوص القطعية المقررة لهذه العقوبة وممارسات الصحابة ومن بعدهم في تطبيقها وإجماع المسلمين على تقريرها لترفع أدنى شك في هذه المعقولية ولتقرن هذا الحسن العقلي للعقوبة بأحكامه الشرعية.
والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: الفريق العلمي لقسم الأحكام الشرعية