إنَّ صَاحب الفِطْرة السَّليمَة لاَ يَجِد حَرَجًا في أنْ يَقْبَل الخبر ويَسْتَعْمِله في جميع شُؤُون الحياة، لكنْ هذا لا يَنْفِي وُقُوعَ خِلاَف في قَبُولِ جَمِيعِ الأَخْبَار حَسَبَ دَرَجَة قُوَّتِها، ومِنْ ذلك مَا طَرَحَه الفَلاسِفَة مِنْ كَوْن الخبر مَصْدرًا مُعْتَمَدًا للمَعْرِفة لكنَّ صِدْقِيَّتَه مُتَوقِّفة على أَنْ يَكُون مُتَوَاتِرًا.
لَقَدْ اخْتُلِف في تَقْسِيم الأخبار على أَقْوَال: فالبَعْض جَعَلَهَا قِسْمَيْن: مُتَوَاتِرٌ وآحَاد[1]، والبَعْضُ جَعَلَها ثَلاثَة أقْسَام: مُتَوَاتِر ومَشْهُور وآحَاد[2]، والبَعْضُ زَاد على ذَلك المسْتَفِيضَ[3]…
فالمتَوَاتِر هو الخبر الذي نَقَلَه جَمْعٌ تُحِيل العَادةُ تَوَاطُؤهم على الكذب، أو هو “الخَبَر الثَّابِت بِإِخْبَار قَوْمٍ لَا يُجِيزُ العَقْلُ تَوَافُقَهُم على الكَذِب. ومعيارُه؛ أَي مَا يصدقهُ وَيدلّ على بُلُوغه حدَّ التَّوَاتُر حُصُول الْعلم وَالْيَقِين”[4].
وإنَّما سُمِّي بالمتواتر لتَعَاقُب وتَتَابُع المخْبِرين -سواء كانوا في مجلس واحد مُجْتَمِعِين أمْ مُتَفَرِّقِين أمْ في مَجَالِس مُخْتَلِفَة- بنَفْسِ الخبر ممَّا يجعل العَقْل يُسَلِّم بتَصْدِيقِه دُونَ نَظَر أوْ بَحْث في إِمْكَانِيَّة تَطرُّق الكذب أو الخطأ إليه.
وهذا النَّوْع مِنَ الأخْبَار ممَّا دَفْعُ تَصْدِيقِه مُسْتَبْعَد، بلْ إنَّ الإنسان يجد عقله مُنْدَفِعًا إلى قَبُوله دُون التَّوَقُّف فِيه أوْ مُراجَعَته، كما لوْ أخبَرَنَا ألفُ شَخْصٍ عنْ وُجُود شَيْءٍ ما في مكان ما -لكنَّنا لمْ نَخْتَبِرْه بحَوَاسِّنا- لَوَجَدْنا أنَّ العَقْل يَقْبَلُه ويَجْزِم بصِدْقِه دُون تَوقُّف على التَّثبُّت منه والذَّهاب لِرُؤْيَته رُؤْيَة عَيْنيَّة ذاتيَّة قَصْدَ التَّأكُّد مِنْ صِدْقه.
وهَذَا النَّوْع مِنَ الخَبَر -كما مرَّ معنا- يُقِرُّ به الفلاسفة أيضًا ويُصَدِّقونه، وإنَّما إنكارهم كان لخبر الوَاحِد أو خَبَر الآحَاد؛ وهو الخَبَر الذي لم يبلغ عدَدُ المخبِرين به حدَّ التَّواتر، فهو بالتَّالي ما أخبر به مُخبِر واحد فأكثر ما دُون التَّواتر[5].
إنَّ الطَّعْنَ في خبر الآحاد واعتبارَه غير مفيد للعِلْم مُطْلَقًا ليْسَ بصَحيح، وذلك لأَنَّ الواقع يؤكِّد على قَبُول خبر المخبِر وإنْ كان واحدًا فقط. ولنا في ذلك أمثلةٌ كثيرةٌ نَقْتَصِرُ مِنْهَا على مِثَال واحدٍ في ما كان المخبِر شَخْصًا واحدًا -وهو فيما يَرْوِيه أكثر مِنْ وَاحدٍ أَوْلى وأَحْرَى- حيثُ أنَّنا نجد في مُعَامَلاتِنا الحياتيَّة اليَوْمِيَّة كثيرًا ما تُصادِفنا أخبار مَنْبَعها ومَصْدَرُها مُخبِر واحدٌ فقط، وعليه فإنَّ إنكار هذا النَّوْع مِنَ الخبر فيه إضَاعَة لمصْلَحة كُبْرى على الإنسان، بلْ في بعض الأَحْيَان تَتَوَقَّف عليه حيَاتُه كما لوْ أنَّ شَخْصًا مريضًا احتاج إلى عمليَّة فَوريَّة فأخبَره الطَّبيب أنَّه إنْ لمْ يُجْرِ هذه العَمَليَّة فسَيُعَرِّض نفسه للمَوْت، فلا نجد عادةً أنَّ هذا المريض يَطْعَن في الخَبَر لأنَّ مَصْدَرَه مُخبِر واحدٌ فقط، أوْ يقول له لَنْ أُجْرِي أيَّ عَمَليَّةٍ حتَّى يُخْبِرني بذلك مَجْمُوعَة مِنَ الأَطبَّاء يبلُغ عددُهم حدَّ التَّواتُر ممَّا تُحِيل العَادَة تَوَاطُؤهم واجْتِمَاعَهم على الكَذِب، ممَّا يُزِيحُ عنِّي التَّوَهُّم بإمكان كَذِب الخبر الذي مفادُه تَعْرِيضِي للأَذَى أوْ الموْت إنْ لمْ أسْمَح بحصُول هذه العَمَليَّة…
فلَوْ حَصَلَ واشْتَرَطَ مِثْل هذا الشَّرْط لاعْتَبَرْناه فاقِدًا للعَقْل أوْ سَفيهًا لاَ يَعْلَم مَصْلَحَتَه ولَتَولَّى النِّيابة عنه أَحَد أقرِبائه كَمَا هُو حَاصِل في الواقع.
فاشْتِرَاط التَّواتُر لِقَبُولِ الخبر إنَّما هو قَرِيب مِنَ العَبَث ومُخالَفة العَادَة دُون دَلِيل.
ومَعْلوم -كما سبق- أنَّ المخبِر قد يُوصَف بالصِّدق أوْ الكَذِب، هذا ما جَعَلَ الفَلاسِفَة يَحيدُون عَنْ قَبول خبر الآحَاد لِتَطرُّق الكَذِب والوَهْم إليه.
وبَيَانُه فيما لوْ قُلنا مثلًا؛ أنَّ وجودَ شَخْصَيْن في مَحْكَمَة أحدُهما مُجرِم والآخر بَرِيءٌ فتَنَازَعْنا مع الفلاسفة حَوْلَهُما فقالوا بما أنَّنا لا نعرف يقينا أنَّه بريء إِذَنْ نعتبرُه مُتَّهمًا ومُجرِمًا.
هل هذا يقبله عاقل؟ إنَّما الحُكم يكون على الأفراد المعيَّنين لا على الكُلِّ باعتبار خطأ بعضِ أو جُلِّ أفراده، فمِنَ المعِيب أنْ نَحكُم على بَرِيءٍ بأنَّه مُجْرِم لمجرَّد أنَّ غالبيَّةَ مَنْ وَقَفُوا أمَام القَاضِي هُم مِنَ المجْرِمِين…
وكذا فإنَّه مِنْ غَيْر المنطِقيِّ رَفْضُ خبر الآحَاد الذي يَرْوِيه العَدْل الضَّابِط المعرُوف بالصِّدق والأمَانَة لأنَّ البَعْض الآخر ممَّن يَرْوي الأخْبَارَ يَكُون كَاذِبًا.
تصنيف الرُّواة باعتبار العدالة والضَّبط:
وبهذا يُمْكِنُنَا أنْ نُقَسِّم المخْبِرِينَ في مَجَال نَقْل الأَخْبَار إلى ثَلاثَةِ أصْنَاف إجمالًا:
الأَوَّل: المخبِر الصَّادق يُقبَل خَبَرُه، إذْ مَنْ عُلِم ضبطُه لما يَرْوِيه وعدالتُه وظَهَرَ أنَّه مِمَّن يَتَحرَّى الصِّدق في حديثه ولمْ يُجرَّب عليه الكَذِب فما مِنْ دَاعٍ لاتِّهامه بالكَذِب دُون بيِّنَة، بلْ وُجِد الدَّليل على عَكْسِ ذلك فَلَزِم الأخْذ به وتَرْك التَّوهُّمِ.
الثَّاني: المخبِر الكَاذِب لاَ يُقبَلُ خَبَرُه ويُرفَضُ، حيثُ أنَّ مَنْ عُلِم كَذِبُه في عامَّة ما يُخبر به عادةً يُلحَقْ بأَصْلِه كُلُّ خبرٍ لاَحِقٍ حتَّى يَظْهَر منه خِلاَف ذلك مِنْ تَوْبَةٍ عَنِ الكَذِب، أوْ قِيَام حُجَّة ما تُدَعِّم صِدق خَبَرِه مجرَّدًا بِمَعزَل عَنْ قَائِلِه.
الثَّالث: المخبِر الذي لا يُعلَم صِدقُه مِنْ كَذِبِه، فإنَّ هذا القِسْم ممَّا يُتوقَّف في قَبُول خَبَرِه إلى أَنْ نَتَثَبَّت فيه فنُلحِقَه بأَحَدِ القِسْمَيْن السَّابِقَيْن، وذلك كَمِثْل مَنْ كَان غَرِيبا مَجهُولًا عنْ منْ نُقِل إليه الخبر أوْ كَانَ حالُه غير مَعْرُوف لا بصِدق ولا بكَذِبٍ.
يتبع..
https://almohaweron.co/alkhabar-masdar-maarfi5/
لقراءة المقالات السابقة من سلسلة الخبر مصدر معرفي:
[1] وهو ما سنسير عليه لأنَّه أوثق بمقالتنا هذه لدراستها لموضوع الخبر كمصدر للمعرفة.
[2] التهانوي “موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم” -ج١ص٧٣٨-، وهو المعمول به عند عامَّة المحدِّثين.
[3] يُرجع في ذلك إلى كتب مصطلح الحديث.
[4] القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (المتوفى: ق ١٢هـ) كتاب: “دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون” -ج٢ص٥٤- عرب عباراته الفارسية: حسن هاني. فحص الناشر: دار الكتب العلمية – لبنان / بيروت الطبعة: الأولى، ١٤٢١هـ – ٢٠٠٠م عدد الأجزاء: ٤.
[5] التهانوي “موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم” -ج١ص٧٣٨-.
الكاتب: سليم الحفيان