قال علماء أصول الفقه قديمًا: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، والمعنى أننا عندما نحكم على شيء بأنه جيد أو سيء أو مستحب أو مكروه، فإنما نقيم هذا الحكم في ضوء معرفتنا وتصوراتنا عن هذا الشيء، وكلما ازدادت معارفنا عنه ازدادت مساحات الفهم والتأكد من صحة أو خطأ الحكم الذي توصلنا إليه.
وفي هذه المقالةِ نستعرض مفاهيم الحياة والموت في الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، والهدف من هذا العرض هو التعرف على رؤية الأديان الثلاثة لطبيعة الحياة، مبدؤها ومنتهاها، وبالتالي الحكم على أي رؤية أصلح وأنسب، خصوصًا بين الحيارى من اللا-أدريين والذين يقولون: لماذا يكون الإسلام وحده هو الدين الصحيح لا غيره؟ وبين الملحدين الذين يتهمون الإسلام بأنه سرق من الأديان السابقة تصوراتها للحياة والموت ولم يأتِ بجديد، وبالتالي يزعمون أن محمدًا ﷺ اخترع الإسلام بالترقيع من أساطير الأولين.
ومنهجنا في هذه المقالة المختصرة أننا سنعرض المفاهيم الكبرى للحياة وما بعد الحياة في الأديان الثلاثة من كتابات أهلها، دون تعليق أو تقييم، ونترك المجال للقارئ للتوصل إلى النتيجة بنفسه.
[الحياة والموت في اليهودية]:
إذا كان التوحيد هو قلب الإسلام، فإن مفهوم العهد هو قلب اليهودية، والعهد covenant يقصد به: ما عهد الله به إلى بني إسرائيل ليكونوا شعب الله المختار، وبالتالي فالمعنى ليس أنه – سبحانه- إلههم وحدهم، ولكن أنهم سفراء الله في الأرض، والواسطة بين الخلق والخالق وأنهم الشعب المصطفى لتحقيق ذلك، وبالتالي فهم فوق شعوب الأرض مكانة؛ ولذلك يتجهون للتكتل في معظم المراحل التاريخية خوفًا من الانسحاق والفناء فيفني معهم عهد الله.
والعهد عندهم أصله من عهد الله لإبراهيم بتكثير ذريته وإسكانهم الأرض المباركة، ثم عهد خاص لقوم موسى عند خروجهم من مصر، ففي سفر الخروج (١٩:٥و ٦):
فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ.6 وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ».
وهكذا الحفاظ على العهد من اليهود هو مسؤولية جماعية ومسؤولية فردية.
بداية الحياة:
بدأت الحياة البشرية في التصور اليهودي عندما خلق الله آدم، ففي سفر التكوين:
وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.
وهذه الآية تحتوي على ألفاظ مهمة: النسمة، النفس، النفس الحية (الروح)، والكلمات كلها مرجعها إلى النفخة الإلهية التي حولت النفس (الجسد) من كيان بلا روح إلى (نفس حية) كيان تحتله الروح عبر النسمة.
ويشرح عالم الأديان Gillman تداخل هذه الألفاظ معًا واستخدامها على نحو متبادل عندما يشير إلى تفسير الموت في الكتاب المقدس، حيث يوصف بأنه: خروج “الروح” (كما في المزامير ١٤٦) أو خروج “النفس” (كما في التكوين ٣٥) أو أن الله يتوفى “النفس” (الملوك ١٩) أو يسترد “النسمة” (كما في أيوب ٣٤).
مفهوم الموت:
ويرى اليهود الإنسان – على هذا الأساس- باعتباره مكونًا من وعاء خارجي هو الجسد، تحتله نفخة إلهية هي الروح، وأن الإنسان هو الروح فقط لا الجسد، وبالتالي فلا موت يصيب الإنسان، فهو -كروح- يعود للخالق، ويفنى الجسد بالانتقال إلى مكان يسمى “الهاوية Sheol” والجسد بلا روح – في هذه الرؤية- يكون شبحًا أو كيانًا محكوم عليه بالفناء في أرض الأموات بلا بعث ولا نشور، وهذه الرؤية العدمية للجسد تشابه ما كان شائعًا في الحضارات الكنعانية وحضارات الرافدين، فعند الكنعانيين كانت أرض الموتى تقع تحت أرضنا يغلفها الظلام ويحكمها رب يسمى Mot ، وهكذا فأرض الموتى هي أرض لا عقاب فيها ولا حساب ولا جزاء ولا بعث ولا نشور، والأرواح لا تموت؛ بل تعود للخالق في السماء، والأبدان (أو النفوس) ترزح في أرض العدم بغض النظر إن كان أصحابها من الأخيار أم من الأشرار في الحياة، وفي سفر أيوب:
9) السَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ، هكَذَا الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ.10 لاَ يَرْجعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ.)
وفي المزامير (٨٨): إنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ الْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى الْهَاوِيَةِ دَنَتْ.4حُسِبْتُ مِثْلَ الْمُنْحَدِرِينَ إِلَى الْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُل لاَ قُوَّةَ لَهُ. 5بَيْنَ الأَمْوَاتِ فِرَاشِي مِثْلُ الْقَتْلَى الْمُضْطَجِعِينَ فِي الْقَبْرِ، الَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ انْقَطَعُوا.6وَضَعْتَنِي فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاق.)
وهكذا فأرض الأموات معزولة عن الأحياء وعن خالق الأحياء جميعًا. ففي سفر إشعيا:
لأَنَّ الْهَاوِيَةَ لاَ تَحْمَدُكَ. الْمَوْتُ لاَ يُسَبِّحُكَ. لاَ يَرْجُو الْهَابِطُونَ إِلَى الْجُبِّ أَمَانَتَكَ. (١٨)
تطور مفهوم نهاية الحياة:
كان تصور الهاوية تصورًا قاسيًا وظالمًا يساوي بين الأخيار والأشرار والنبيين والقاتلين، والأبرار والكفار، وبدا لليهود أنه لا يشكل تصورًا عقلانيًا يعبر عن عدالة الخالق وعلمه، وخصوصًا عندما تعرض اليهود للسبي البابلي ولاقوا من الويلات والمعاناة الكثير، فكان من الصعب عليهم تقبل فكرة أنهم – أبناء الله وشعبه المختار وأصحاب عهده- سيؤول بهم الحال إلى ما يؤول إليه حال ظالميهم، وهم في السبي ضاعت منهم التوراة، وبدأوا يعيدون كتابتها، ويراجعون مفاهيمهم عن الحياة والموت، فبدأ ظهور أول تصور للآخرة والثواب والعقاب في سفر دانيال، والذي يؤكد المؤرخون أنه كتب في عام ١٦٥ قبل الميلاد، أي قبل ميلاد المسيح بأقل من قرنين، ونلحظ فيه – لأول مرة- التفريق بين الأخيار والأشرار، وبين الخلود في النعيم والخلود في النار:
1 )وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يَقُومُ مِيخَائِيلُ الرَّئِيسُ الْعَظِيمُ الْقَائِمُ لِبَنِي شَعْبِكَ، وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيق لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يُنَجَّى شَعْبُكَ، كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مَكْتُوبًا فِي السِّفْرِ.2وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ.)
ويذكر Alan Segal وهو من علماء دراسات الآخرة Eschatology أن عقيدة النشور لم تكن مقبولة لدى أحبار اليهود إلا بعد عام ٢٠٠ قبل الميلاد، وكانوا يرون أن تحقيق مملكة إسرائيل هي الحياة الخالدة المرتقبة تحت حكم المسيح المنتظر، وأن الجنة عندهم هي الاجتماع بعد الشتات، ومازال حتى اليوم الخلاف قائمًا بين الأحبار الفريسيين والسدوسيين حول أسئلة مهمة لا إجابات قاطعة لها، وهذه الأسئلة -كما تذكرها إنجيلا سموجي – هي:
هل تقوم القيامة ثم يقضى بين الناس؟ أم يقضى أولًا بين أرواحهم وبناء على الحكم تبعث الأجساد التي تستحق الحياة فقط، وتترك الأخرى في الهاوية؟
هل من يقوم بالحكم بين الخلائق هو الرب أم المسيح المنتظر؟
وهل تكون مملكة إسرائيل هي الحياة الآخرة أم تأتي بعدها حياة أخرى؟
وتكاد أفكار اليهودية حول طبيعة الجنة والهاوية تتطابق مع أفكار فلاسفة اليونان وتصوراتهم الوثنية وأفكار قدماء المصريين كذلك، حيث هناك مكان تحت الأرض هو حقول أوزوريس Elysian Fields يعيش الميت الصالح فيه في هناء وراحة، وهناك جحيم أبدي للروح التي تحررت من الجسد كما يرى أفلاطون.
ورغم عدم وضوح طبيعة الروح وكيفية تحررها من الجسد، وطبيعة الهاوية، وكيفية الخروج منها، وطبيعة البعث وطبيعة الجنة، وغيرها من الأمور المحورية، يكتفي اليهود بالقول: إنه طالما الأمور بين يدي الله القدير العادل، فلا نخاف شيئًا.
[الحياة والموت في المسيحية]:
إذا كان مفهوم العهد هو قلب اليهودية، فمفهوم الخلاص هو قلب المسيحية؛ والخلاص يعتمد على أن هناك خطيئة أصلية وقع فيها آدم بالأكل من الشجرة المحرمة، وأن البشر جميعًا – بسبب ذلك – واقعون في الخطيئة، وأن هذه الخطيئة لا يكفرها سوى الدم، والمقصود قتل النفس لله، ولكن لأن الرب -في العقيدة المسيحية- كله محبة ورحمة فقد أراد أن يرسل ابنه فداءً للبشرية، بحيث يتحمل عنهم الذنب، ويقدم نفسه كفداء، ولهذا كل من آمن بالمسيح ربًا وفداءً ومخلصًا فهو واقع تحت ملكوت يسوع ويحصل له الخلاص من العذاب، وكل من لم يؤمن بذلك – بغض النظر عن صالح أعماله- فهو مطرود من الملكوت، ولذا يصور المسيحيون آلام المسيح قبل الصلب بشكل مبالغ فيه لا يكاد يتحمله بشر.
وبعد موت المسيح على الصليب – في العقيدة المسيحية – بثلاثة أيام لم يجدوه في قبره، وذُكر أنه ظهر نورًا لأمه مريم وبعض تلاميذه، وأخبرهم أنه سيعود في آخر الزمان ليحكم ملكوت الله على الأرض، وعندها تتخلص الأرض من الأشرار ولا يبقى سوى الأطهار يحكم المسيح مملكته على الأرض لمدة ألف عام.
ما بعد الموت:
التصور العام في المسيحية هو أن الموت موتان وأن البعث بعثان، فكما مات المسيح على الصليب سيبعث ويعيش مرة أخرى على الأرض، كذلك المؤمنون بالمسيح سيموتون ثم يبعثون على هذه الأرض مع عودة المسيح ويعيشون حياة الملكوت، حتى تنقضي الحياة على الأرض فيموتون مرة ثانية ثم يبعثون يوم القيامة أرواحًا بلا أجساد، وفي رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس:
فَأَقُولُ هذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ.51 هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ،52فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ.53 لأَنَّ هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ[١]، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ.54وَمَتَى لَبِسَ هذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ».
ولكن بتطور التاريخ المسيحي حدث خلاف حول ما يحدث للجسد، فرأى البعض أن الجسد يبعث ويعيش الحياة الأبدية، ورأى البعض -كما قال بولس- أن الجسد يفني وأن البعث يكون للأرواح فقط، وممن قال ببعث الأجساد إغناثيوس الأنطاكي، وأكد -كما يقول Segal- أنه إن لم يبعث الله الأجساد، فهو لا يبعث شيئًا، ولا يقيم الموتى.
وبالنسبة للقائلين ببعث الأجساد، فإن الروح عند فراق الجسد لا تموت؛ بل تظل في عالم بيني تنعم فيه أو تعذب حسب أعمالها في الدنيا، وعند البعث بعث أولًا يسوع، ثم يبعث القديسون والشهداء، ثم يبعث باقي الناس، وفي سفر رؤيا يوحنا يصف القديسين والشهداء أنهم:
لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ،17 لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ
وهذا البعث للقديسين والشهداء هو البعث الأول الذي يعقبه ملكوت يسوع لمدة ألف سنة، يقيد فيها الشيطان بلا قوة، وتكون السعادة والهناء للقديسين في القدس، وفي سفر يوحنا يصف هذه الجنة الأرضية:
ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ.2وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. 3وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ.4 وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ»
ثم يجيء الموت الثاني ليسوع والناس أجمعين، وبعده البعث الثاني أمام الله حين يحاسب الناس ويذهبون حسب إيمانهم بيسوع إما إلى الجنة أو النار. غير أن الكنيسة في القرون الوسطى رأت أن هذا التقسيم الثنائي إلى الجنة والنار فقط تقسيم قاسي، وبالتالي أضافت مكانًا ثالثًا وهو المطهر – وهو مكان بين الجنة والنار يطهر فيه العصاة – وقد ظهرت هذه الفكرة في خطاب بابوي سنة ١٢٣٥ (= سنة ٦٥٠ هجرية يعني بعد ظهور الإسلام ب ٦٠٠ سنة تقريبًا وتقديمه مفهوم الأعراف الواقعة بين الجنة والنار). بالرغم من أن فكرة المطهر لا تبدو منطقية للكثير من المسيحين الذين يؤمنون بأن الخلاص إنما يحدث في الدنيا عند الإيمان بعقيدة الفداء وبيسوع وليس بأي سبيل آخر.
ومازالت الخلافات بين الكنائس المختلفة في العلم حول طبيعة ما يحدث بعد الموت متباينة حتى ذكرت إنجيلا سومجي أنها بلغت ٢٩ ألف فرقة مسيحية، لكل منها طقوس خاصة لتوديع الميت وتصور خاص بحياته بعد موته.
الحياة والموت في الإسلام:
التوحيد هو جوهر الإسلام وشعاره الذي يظهر في الأذان للصلاة كل يوم خمس مرات من خلال التلفظ بالشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فالشهادة تنفي الألوهية عند كل أحد إلا الله، أي لا معبود بحق سواه، لكنها لا تنفي الرسالة عن أحد غير محمد، فمحمد هو أحد – بل خاتم- رسل الله، والتأكيد عليه في الشهادة يعني أن من كان يؤمن برسل قبل محمد، فليؤمن أن محمدًا مثلهم رسول الله، وبناء على هذا الفهم يكون تصور الحياة وما بعد الحياة في العقيدة الإسلامية.
فلا توجد خطيئة أصلية يعاقب – أو ينقذ – بسببها كل البشر، و{كل نفس بما كسبت رهينة}(المدثر:٣٨)، و “لا تزر وازرة وزر أخرى” (الزمر:٧) و “أن ليس للإنسان إلا ما سعى” (النجم:٣٩) وهي كلها آيات تؤكد على فردية العمل وفردية الثواب وفردية العقاب وفردية الجزاء. كما أنه ليس هناك عهد للمسلمين دون غيرهم ليكونوا الواسطة بين الله وخلقه، وإنما العهد لبني آدم أجمعين للإيمان بالله الواحد {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:١٧٢)
وهكذا فالإسلام ليس موجهًا للعرب فقط ولا لبني إسماعيل فقط؛ بل للناس أجمعين، ومحمد رسول الله للناس أجمعين: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف:١٥٨)وخيرية أمة المسلمين مرتبطة بالإيمان والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن توقفت عن ذلك استبدلها الله بغيرها { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} (آل عمران:١١٠) و{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}(محمد:٣٨)، ومحمد ﷺ في التصور الإسلامي ليس ربًا ولا ابن رب، ولا يعلم الغيب ولا يقول من ذاته شيئًا، إنما يبلغ رسالة ربه، ورغم التكريم والتبجيل الكبير لمحمد ﷺ في القرآن ورغم محبته الطاغية لدى المسلمين، إلا أنه ﷺ يؤكد: ” لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة “(رواه البخاري ومسلم)، والمعنى أن العمل ضروري لدخول الجنة لكنه غير كافي؛ بل المعول على رحمة الله وفضله كذلك.
مفهوم الحياة والموت في الإسلام:
في الإسلام: الدنيا مزرعة الآخرة، ففي الدنيا يعمل الإنسان ويكد، وفي الآخرة يلقى جزاءه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. والموت هو مرحلة انتقالية من مراحل حياة الإنسان، فله في عالم الذر -أو الظهر – حياة، وهو نسمة لم تخلق بعد كما في آية الإشهاد السابقة، وله في الرحم حياة بأطوار النطفة والعقلة والمضغة والعظام المكسوة والخلق الآخر، وله في الدنيا حياة العمل المجزي عليها، ثم له في القبر حياة البرزخ بنعيمها وشقاءها، ثم له في البعث حياة هي الحياة الدائمة الخالدة:{مَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:٦٤). والإنسان يولد على الفطرة بميل طبيعي لعبادة خالقه وتوحيده.
وهكذا فالإنسان مكون من روح ونفس وجسد و{الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} (الزمر:٤٢)، وأما الجسد فمحله- بعد الموت- القبر، وفي الأغلب يتحلل الجسد في الأرض، إلا أن أجساد الأنبياء وبعض الشهداء والصالحين لا تبلى كما هو مشاهد في أزمان وأماكن كثيرة. ويوم القيامة ينفخ في الصور، فتعبث الأجساد وترد فيها الأرواح، ويقع العذاب -سواء في القبر أو في النار- على الأجساد والأرواح كليهما.
واختلف العلماء في تفصيل الفرق بين الروح والنفس، فمنهم – الغزالي مثلًا – من قال إن الروح هي النسمة العاقلة، وأن النفس هي النسمة الشهوانية، ومنهم -ابن القيم مثلًا- من عرف الروح بأنها جسم لطيف يسرى في الجسد كما يسري الماء في النبات والزيت في الزيتون والنار في الفحم. والروح هي مصدر الحياة، أما النفس فهي المميز للإنسان عن البهائم. وعند الكثير من العلماء -منهم ابن تيمية- أن الروح والنفس هما نفس الشيء، وأن التقسيم ثنائي – روح وجسد- لا ثلاثي.
ما بعد الموت:
قبر الإنسان أولى منازل الآخرة، وفيه آخر الاختبارات التي يتعرض لها الإنسان وهو اختبار سؤال الملكين عن الرب والرسول والكتاب، وتكون إجابة الصالحين سهلة ميسورة، ويغلق على الأشرار معرفة الجواب الصحيح ويصيحون “لا أدري”، وبناء على الإجابة – والأعمال السابقة- تكون حياة القبرة نعيمًا أو جحيمًا، وفرعون موسى مثلًا يعرض هو وأتباعه على النار أثناء فترة قبرهم، ثم يدخلونها عند البعث: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر:٤٦).
وعند الموت يتغير حال الإنسان، فيكشف عن قدرات لبصره لمن تكن متاحة له في حياته: {فبصرك اليوم حديد}(ق:٢٢)، ويدرك حقيقة أشياء كثيرة لم يكن يدركها في الدنيا، ويوم القيامة: {تبدل الأرض غير الأرض والسموات}(إبراهيم: ٤٨) ، وتعود العجائز فتيات أبكارًا في سن الشباب {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين} (الواقعة: ٣٥-٣٨)، ويدخل أهل الجنة الجنة على أبهى صورة وأحسن حال: (يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا بيضًا جعدًا مُكحَّلينَ أبناءَ ثلاثٍ وثلاثينَ وهم على خلقِ آدمَ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم ستُّونَ ذراعًا في سبعةِ أذرعٍ) (حديث حسن)
ويفصل القرآن في نعيم الجنة تفصيلًا رائعًا يستهوي النفوس، وفي جحيم النار تفصيلًا تمثيليًا مروعًا يزجرها.
ويبقى بعض من الناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، “فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي اللّه تعالى فيهم”.
والأعراف قنطرة عالية على شكل عرف بين الجنة والنار، والمكث عليها مؤقت؛ لأنه في الآخرة الناس إما في النار أو في الجنة، وأصحاب الأعراف كانوا يعرفون الحق والباطل لكنهم لم يحسموا أمرهم فحبسوا بين الجنة والنار حتى يقضي اللّه تعالى فيهم {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} (الأعراف:٤٦)، فهم على الأعراف حتى يقضي اللّه فيهم أمره.
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
Sumegi, A. (2013). Understanding death: An introduction to ideas of self and the afterlife in world religions. John Wiley & Sons.
Segal, Alan F. Life After Death: A History of the Afterlife in Western Religion. New York: Doubleday. 1989.
Segal, Alan F. “The Jewish Tradition.” In Willard G. Oxtoby and Alan F. Segal (eds.), A Concise Introduction to World Religions. Oxford: Oxford University Press, 2007, pp. 60–128.
Gillman, Neil. The Death of Death: Resurrection and Immortality in Jewish
Thought. Woodstock, VT: Jewish Lights Publishing, 1997.
Al-Ghazali. The Remembrance of Death and the Afterlife. Cambridge: Islamic Texts Society, 1989.
Chittick, William C. “‘Your Sight Today is Piercing’: The Muslim Understanding of Death and Afterlife.” In Obayashi Hiroshi (ed.), Death and Afterlife: Perspectives of World Religions. London: Praeger, 1992, pp. 125–139.
الاقتباسات من الكتاب المقدس من النسخة العربية على الموقع التالي:
https://st-takla.org/Holy-Bible_.html
[١] الكلمة بالإنجليزية هي Perishable وتعني الفاني وليس الفاسد. وكل كلمات الفساد الواردة في النص تعني “الفناء”.
الكاتب: أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه