انطلاقاً من الآية الكريمة:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[٢١:الذاريات ] سوف آخذكم بإذن الله في رحلة في الإنسان على الصعيدين الجسدي و الفطري، حيث سأتناول على الصعيد الجسدي التكلم عن الكلية كي أشارككم بضع المعلومات المبهرة التي قد تعلمتها عنها أثناء دراستي للطب، وأما على الصعيد الفطري؛ فسأتناول الفطرة وآثارها كدليل على وجود الله تعالى الذي أودعها بين جنبات بني آدم كي تدلهم عليه جل علاه.
بالنسبة للكلية فهي تقوم بتنقية الدم من المواد السامة لجسم الإنسان سواء التي تنتج عن عمليات الاستقلاب أو التي يتناولها الإنسان كالأدوية و غيرها، كما أن الكلية تنتج الرينين الذي ينظم ضغط الدم عبر عملية بالغة التعقيد، وتنتج أيضًا هرمون الإريثروبويتين الذي يتحكم في عملية تكوين كريات الدم الحمراء، وتحافظ على تراكيز مختلف المواد في دم الإنسان ضمن مجالات متناهية الصغر وغيرها من المهام التي تؤديها يومياً لسنوات و دون أي حاجة لأي مركز تحكم حيث تقوم بكل هذه الوظائف تلقائياً، فالإنسان لا يحتاج أن يفكر كيف يضبط نسبة الأملاح في الدم أو كيف يتخلص من المواد السامة، بل تعمل الكلية كل ذلك دون حتى أن نشعر بأي شيء سبحان الله أحسن الخالقين!!
للإيضاح أكثر يكفي أن أبين الأضرار المترتبة حال تعطل عمل الكلية لفترة بسيطة، فمثلاً في الطب إذا لم ينتج الانسان أي كمية بول لمدة ١٢ ساعة؛ فلا بد أن يوصل بجهاز غسيل الكلى، يعني سبحان الله هذا الجهاز الذي عمل لسنين على تنقية الدم والحفاظ على نسب المواد ضمن المجال السليم إذا توقف فقط لمدة ١٢ ساعة فإن حياة الانسان سوف تكون بخطر!
أما الجهاز الذي يحاول جاهدًا القيام بمهمة هذه الكلية الصغيرة فهو يفوقها في الوزن أضعافاً كثيرة، ورغم ذلك لا يستطيع القيام إلا بجزء يسير من مهمتها و هذا يقتصر فقط على تنقية الدم من بضع مواد سامة فقط، ولكن في نفس الوقت لا يستطيع أن يحافظ على نسب العناصر في الدم لذلك لا بد أن يحلل دم المريض كي تحسب نسب هذه العناصر و تعوض من خلال محاليل تحوي على هذه العناصر، وفوق ذلك كله لا يمكن أن تصحح نسب هذه المواد هكذا بسهولة لأن جسم الإنسان منظومة متكاملة معقدة تعقيداً غير قابل للاختزال، تهدي كل ذي لب إلى الإيمان بخالق عليم قدير حكيم، فمثلًا: إذا نقص الصوديوم لا يمكن للطبيب أن يضيف لدم المريض ما ينقصه دفعة واحدة بل لا بد أن تضاف هذه الكمية خلال أيام و إلا فإن السوائل ستدخل داخل الدماغ و ستسبب له اعتلال خطير قد يؤدي للموت، وبالتالي ما نحتاجه كي نعوض عمل الكلية جزئياً فقط هو جهاز ضخم للغاية وبطيء ولا يؤدي إلا دور تنقية جزئي، وفريق طبي متكامل، وممرضين، ومختبرات للتحليل، ومصانع دوائية تنتج المحاليل، وغيرها من التفاصيل، وهذا كله لتعويض عمل عضو لا يصل وزنه أكثر من ١٧٠ غرام.
سبحانك ربي ما أعظمك! مدينة صناعية متكاملة تعمل من تلقاء نفسها بدقة منقطعة النظير، حيث تحفظ نسب المواد في مجالات منتهية الصغر، فمثلًا: الكالسيوم ٤.٦ – ٥.٤ جزء من ألف جزء من الجرام و المغنيزيوم ١.٨ – ٢.٦ جزء من ألف جزء من الجرام.
بالله عليك! أي جهاز في هذا العالم الحديث يستطيع المحافظة على تراكيز مواد ضمن هذه المجالات المتناهية الصغر وليست مادة أو اثنتين؛ بل عشرات المواد وليس هذا فحسب، حيث أن هذه المواد يدخل منها يوميا ويخرج كميات مختلفة ورغم ذلك قد يعيش الإنسان أكثر من ٨٠ سنة دون أن يختل تركيز مادة واحدة، وكل هذا من خلال عضو صغير ليس له أي موجه ولا يصدر أي صوت ولا يحتاج سوى الأوكسجين وبعض الطاقة اليسيرة، ولا يوجهه لا فريق طبي ولا مختبرات، وإنما سخره ربنا الحكيم العليم و خلقه في أبدع صورة لا تدع مجالا للشك لأي منصف أو عاقل بأن يشك ولو للحظة بأن هذا العضو العجيب الدقيق المعقد ما هو إلا آية من آيات الله تعالى.
بالله عليك! أي صدفة أو عشوائية جاءت بهذا العضو من لا شيء، برأيي من يقول مثل هذا ليس أعقل من شخص زعم أن لعب عميان بمستودع خردوات قد ينشئ مصنع تنقية مياه صرف صحي بالصدفة! ولكن هو الهوى إذا استعبد صاحبه جره الى مستنقعات الظلام والقاذورات والغباء كي يبعده عن نور الهدى.
أما بالنسبة للفطرة؛ فلو سألت أعتى الملاحدة وأكثرهم ادعاء للعلم عن سبب تمييز الناس للخير من الشر، أو لماذا يملك العديد من الناس حول العالم على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم أخلاقًا هي نفسها في كل مكان كالوفاء والصدق والإيثار والحب والتضحية والعطف وغيرها، لما استطاع أن يجيب وفق منظوره المادي الإلحادي، بل حتى إن الكثير منهم قد صرح بأن الأخلاق بل و حتى المشاعر تعد مشكلات كبرى تواجه تفسيرهم المادي الإلحادي للوجود والإنسان، حيث لن تجد في أي كتاب طبي أو بيولوجي شرحًا لمجموعة التفاعلات والإنزيمات والهرمونات التي تجعل الوالدان يغتمان إذا ما مرض أحد أولادهم، أو التي تجعل الكثير من الأغنياء يتخلى عن قسم كبير من ثرواتهم للفقراء طواعية، كما لن يستطيع أي عالم بيولوجي أن يشرح لك آلية تفعيل مسارعة بعض الناس لإنقاذ من هو في خطر رغم أن بعضهم قد يفقد حياته أثناء إنقاذ الآخر.
كل هذه الظواهر وغيرها ليس لها أي علاقة بالمادة، بل إنها ضد تفسيرات الملاحدة في نشأة الإنسان و التي تفترض أن الإنسان قد نشأ من مواد عضوية وغير عضوية بالصدفة!.
أثر آخر من آثار الفطرة غير الأخلاق؛ هي البديهيات العقلية التي لولاها لما قام أي علم تجريبي و لما استطاع الناس الحياة أو التفاعل مع محيطهم، مثل: الجزء من الشيء أصغر من الكل، ولكل حادث سبب، واستحالة اجتماع النقيضين واستحالة تواجد جسم واحد في أكثر من مكان.
فكل هذه البديهيات يتفق عليها العقلاء كلهم، وقد أودعها الله جل علاه في كل إنسان ليستخدمها في الوصول إلى الحقائق والعلوم التي تيسر عيشه وتوصله إلى حقيقة وجود الله جل علاه، وأنه هو خالق كل شيء، وهو الواحد القهار، وهذا ما يعترف به حتى الكفار المشركون في الماضي والحاضر كما في قوله تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[٦١:العنكبوت]
و مما يدل على الفطرة أيضًا هو فطرية الإيمان بالخالق، فقد نشر في صحيفة التلغراف البريطانية في نوفمبر سنة ٢٠٠٨ بحث أكاديمي عنوانه: “الأطفال يولدون مؤمنين بالله”، يؤكد فيه الدكتور جستون باريت وهو باحث متقدم في مركز علوم الإنسان والعقل في جامعة أكسفورد بإنجلترا؛ أن الأطفال الصغار لديهم القابلية المُسبقة للإيمان بـ”كائن متفوق”، لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوقٌ لسبب، ومن تعليقاته أيضًا قوله: “أننا لو وضعنا مجموعة منهم على جزيرة لينشؤوا بمفردهم فسيؤمنون بالله”.
كما ألف د. جستون ود. جوناثان لانمان كتابهما: “علم الإيمان الديني” في نفس العام ٢٠٠٨، يقرّران فيه نفس الحقيقة، كما يقول ابن تتيمية-رحمه الله-: ”إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة”.
وبذلك تتضح آثار الفطرة في دفعها للإنسان للإيمان بالله تعالى إذا ما سلمت من المشوهات التي تجعلها تنتكس حتى يخبو نورها، ولكن رغم كل ذلك ففي الشدائد يستجيب الإنسان لفطرته و يلتجئ إلى ربه جل علاه كما في الآية الكريمة: {وَإِذا مَسَّ الإِنسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنبِهِ أَو قاعِدًا أَو قائِمًا….} [١٢: يونس ] بل حتى أنه لا يدعو ولا يتضرع لأحد إلا الله:{وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ}.[٦٧:الاسراء] .
كما أنه بسبب الفطرة فإن التوحيد كان ملازماً للمجتمعات البشرية في البداية، أما الشرك فقد طرأ مؤخراً عليها، وأما بالنسبة للإلحاد؛ فلم يشاهد إلا في القرون الأخيرة من البشرية بعد الثورة المادية في حياة البشر، كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}[ البقرة:٢١٣]
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسيرها: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِيْنَ”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولا أثبت أحدٌ إلهين متماثلين ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال، ولا أثبت أحد قديمين متماثلين ولا واجبي الوجود متماثلين، ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية، بعبادة غير الله تعالى واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها، كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك، فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين، وقد قال تعالى:{وَلَئِن سَأَلتَهُم مَن خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ لَيَقولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: ٢٥]،
وقال تعالى: {قُل لِمَنِ الأَرضُ وَمَن فيها إِن كُنتُم تَعلَمونَسَيَقولونَ لِلَّهِ قُل أَفَلا تَذَكَّرونَقُل مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبعِ وَرَبُّ العَرشِ العَظيمِسَيَقولونَ لِلَّهِ قُل أَفَلا تَتَّقونَقُل مَن بِيَدِهِ مَلَكوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيهِ إِن كُنتُم تَعلَمونَسَيَقولونَ لِلَّهِ قُل فَأَنّى تُسحَرونَ} [المؤمنون: ٨٤-٨٩]،
وقال : {وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلّا وَهُم مُشرِكونَ} [يوسف: ١٠٦]
انتهى من “درء تعارض العقل والنقل” [١٥٦/٥].
ويقول الباحث “اندري لانج” -من علماء القرن الماضي-: “إن الناس في أستراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي، وقد أكد هذا الرأي العالم الأسترالي “وليم سميث” حيث ذكر في كتابه: (أسس فكرة التوحيد) مجموعة من البراهين والأدلة جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أن أول تعبد مارسه الإنسان كان تجاه الله الواحد العظيم”.
ما أعانني الله على كتابته هنا ما هو إلا بعض آثار الفطرة التي منَّ الله تعالى بها على بني آدم عليه السلام كي تدلهم عليه سبحانه، وحتى من أنكرها وأنكر مدلولاتها بلسانه؛ تراه يعمل بمقتضاها بأفعاله ويقر بها من خلال تصرفاته من حيث يشعر أو لا يشعر.
فالإنسان جسداً و فطرة دليل على وجود الله جل علاه الذي خلقه في أحسن تقويم، وهذا الإنسان ما هو إلا جزء يسير من دليل الاتقان الذي يشمل إضافة لخلق الإنسان جميع المخلوقات من حيوانات وكواكب وأكوان، وهذا كله يجعل أي منصف متجرد عاقل يسبح الله وينزهه، فيعبده إجلالاً ومهابة وافتقاراً إليه جل علاه.
المصادر :
- [١] موقع الإسلام سؤال وجواب
- [٢] مقال: دلالات الفطرة على وجود الله لـ زيد أولادزيان.
الكاتب: إبراهيم محمد خليل الغزالي