تعزيز اليقين

جمْعُ القرآنِ بين الحقائقِ والشبهاتِ


      منذُ أنْ أنزل الله القرآن الكريم، وأحكم آياته وفصّل معانيه، ولا يزال الذين في قلوبهم زيغٌ يتبعون الشبهات ويختلقون الكذب والتضليلات.. فتارةً يتكلمون عن القرآن في خصائصه وذاته، وتارة في سوره وآياته، وتارة في بلاغته وإعجازه، وتارة في جمْعِه وبيانه.. وتارة هنا وتارة هناك، وهم على ذلك حتى لا يلبَثُوا أن يُبهتوا ويُردُّوا على أدبارهم خائبين.

مرَّت مراحلُ جمع القرآن وترتيبه بأطوارٍ عديدةٍ وأسبابٍ مختلفةٍ، حتى وصل إلينا بهذه الحُلَّة المهيبة، وقد كان أبرز هذه المراحل ثلاثة، وفي كل مرحلة من هذه المراحل لا يأْلُ الجاهلون وأصحابُ الضلال جهدًا في أن يسيغوا الشبهات ويصطنعوا الأكاذيب حول الجمع والترتيب؛ وذلك ليطعنوا في صحة القرآن؛ الذي هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، وهم يظنون بذلك أنهم بهذه الشبهات الركيكة والأكاذيب الرخوة سيتمكنون من غرز الخنجر المسموم في صدر الإسلام من أعظم أبوابه وهو القرآن المجيد، ولكنَّهم في كل مرةٍ يرجعون مطأطئي رؤوسهم وقد أُثكِلوا بالحجج وتصدَّعوا بالحقائق من هذا الكتاب العزيز الذي { لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ }.

إنَّ الشُّبَه والأكاذيب كثيرةٌ، ولكنّا سنذكر أبرزَها وأهمَّها في هذا الحديث، وإن تيسَّر بعدها سبيلٌ فسنزيد ونستكثر إن شاء الله..
كما ذُكر سابقًا أنَّ مراحل الجمع الأبرز كانت ثلاثة وهذه المراحل هي:
[١]الجمع في زمن النبي ﷺ
[٢]الجمع في زمن أبي بكر ؓ
[٣]الجمع في زمن عثمان ؓ
وسيكون الكلام هنا في الرد عن ثلاث شبهاتٍ متمحورةٍ حول هذه الثلاث الجموع حتى لا نطيل.

الشبهةُ الأولى: قولُهم لماذا لم يُجمع القرآن كتابيًا في مصحفٍ واحدٍ في زمن النبي ﷺ..؟
وهنا نستطيع القول أنَّ القرآن الكريم كان محفوظًا ومجموعًا كاملًا في صدور الصحابة والقُرّاء، وكان محفوظًا في السطور مدونًا على الجلود والعظم والحجارة مفرَّقًا ولم يكن مكتوبًا في مصحفٍ واحدٍ؛ وذلك بسبب أن دواعي الكتابة لم تكن قائمةً في عهده ﷺ من جهة أنَّ القرآن كان لم يكتمل بعد، وكذلك بسبب أنَّ النسخ في حياة النبي ﷺ كان أمرًا واردًا على بعض آيات القرآن الكريم، فلو دُوِّن الكتاب ثم جاء النسخ لأدَّى ذلك إلى الاختلاف والاختلاط في الدين، فَحَفِظَه سبحانه وتعالى في قلوب الصحابة إلى انقضاء زمان النسخ بوفاة النبي ﷺ، ثم وفَّق الصحابة بعد ذلك للقيام بجمعه في مصحف واحد، وهو كما حصل في زمن أبي بكر الصديق وفي زمن عثمان بن عفان رضي الله عنهما جميعًا.

الشبهةُ الثانيةُ: ادِّعاءهم بتوكيل أمر الجمْعِ إلى غير أهله، واستنادهم بحديث عبد الله بن عمرو أنَّ النبي ﷺ قال: “خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة”
وهم يقصدون بذلك عندما أحال أبو بكرٍ أمْرَ جمعِ القرآن إلى زيد بن ثابت ؓ .
وفي هذا الموضع نقول:
أولًا: أنَّه لا مانعَ أنْ يكلِّف الأميرُ شخصًا بمهمةٍ وهناك من هو أصلح منه لها إذا كان المُكلَّف يستطيع القيام بها قيامًا كاملًا وعلى أتم وجه..
ثانيًا: لا يخفى على الجميع أنَّه اجتمع في زيد بن ثابت ؓ من المواهب ذاتِ الأثرِ في جمع القرآن ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفَّاظ القرآن، ومن كُتّاب الوحي لرسول الله، وشهد العَرْضَة الأخيرة للقرآن في ختام حياته ﷺ، وكان فوق ذلك معروفًا بخصوبة عقله وشدة ورعه وعِظَمِ أمانته وكمال خلقه واستقامة دينه..
ويُضاف إلى ما سبق أنَّ هؤلاء الأربعة لم يكن بعضهم موجودًا أيام جمع أبي بكر للقرآن في المدينة، فإن سالمًا ؓ استشهد في حروب اليمامة في بداية خلافة أبي بكر، وأما معاذ ؓ فكان في اليمن واليًا عليها في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر ؓ.

الشبهةُ الثالثةُ: تشكيكهم في اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم وأقوالهم في بعض الآيات والسور..
أما الإجابة عن هذه الشبه في إنَّ الصحابة قد اختلفوا في جمع القرآن وترتيبه في زمن عثمان، واستندوا بذلك لبعض أقوال الصحابة مثل قول عبدالله ابن مسعود ؓ في سورتي “الفلق والناس” واختلاط الأمر عليه، وكذلك قول عثمان بن عفان ؓ في سورة “الأنفال والتوبة” وظنه أنهما سورة واحدة، وغيرها من الأقوال التي وجد فيها المغرضون وأهل الأهواء والضلال مجالًا للتشكيك وإثارة الشبهات والتناقضات..
فحاصل القول في هذا الأمر أنَّ هؤلاء الصحابة كان قولهم قولًا فرديًا لم يجتمع عليها الأمة، وكان مأخذهم مأخذ الآحاد وقول الآحاد في القرآن الكريم غير مقبول ولا يُؤخذ به إذا خالف الإجماعَ والتواتر. وربَّما يرجع أقوال بعض الصحابة عند اختلافهم؛ بسبب أنَّ بعضهم لم يسمع الآياتِويأخذها مباشرةً من رسول الله ﷺ، أو بسبب وجود الناسخ والمنسوخ فتشابهت على بعضهم آياتٌ تم نسخها أو إبدالها وهم يظنون أنها لم تُنسخ، أو بسبب أنَّ بعضهم لم يشهد العرضةَ الأخيرةَ التي عُرضت على رسول الله ﷺ من جبريل في آخر رمضان عاشه النبي؛ وكان فيها ترتيب الآيات وعدد السور وما إليه، وعدة أسباب غيرها..
والخلاصة في ما يتعلق بهذا الشأن: أنَّه إذا بدت من بعض الصحابة وجهُ معارضةٍ ومخالفةٍ بدايةً، سواءً حول جَمْعِ القرآن أو حول بعض الآيات والسور، إلا أن الاختلاف بينهم قد آل إلى وفاقٍ واتفاقٍ في النهاية، واجتمعت كلمة الصحابة على ما أُقِر في جمع عثمان، وعليه سارت الأمة واتفقت إلى يومنا هذا على ما بين أيدينا من كتاب الله تعالى.

وخلاصة القول في هذه الشبهات وغيرها: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وعد بحفظ كتابه، وقد هيَّأ له من الأسباب الداعية إلى حفظه وصيانته من التحريف والتبديل ما لم يتهيأ لكتابٍ غيره في الدنيا، وعلى كثرة ما صوَّبه أعداء الإسلام إلى القرآن من سهامٍ خاطئةٍ وتلفيقاتٍ مزورةٍ، فقد بقي القرآن كالطوْدِ الشامخِ الذي لا تزحزحه عن مكانه الرياحُ والأعاصيرُ مهما عتت شدتها وتعاظمت قوتها، وقد تكسرت على صخرته العاتية كلُّ ما راشوا من سهامٍ وأطلقوا من نبالٍ، وسيبقى هكذا صلدًا قويًا حتى يرث الله الأرضَ وما عليها، وصدق الله كلامه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.

الكاتب: محمد أحمد الحرازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى