مبدأ السبيية !
طفل صغير ينظر في لعبته المضيئة.. يقلبها، يتفحصها إلى أن يجد زر تشغيل ذلك الضوء…
عالم طبيب يلاحظ مرضا ينتشر بين الناس، فيبحث ويتفحص المرضى المصابين، يحمل همّا عظيما لذلك، لا ينام ليله…
مزارع يزرع أرضه فيجني محصولا أكثر من المعتاد، فينظر في الأرض، في السماد، في البذور، يتأمل في كل خطوة خطاها في هذا الموسم…
ما تقدم هو صور من الحياة اليومية، نعيشها جميعا أو يعيشها بعضنا، كلنا يطلب فيها أسباب ما يراه أو يسمعه..
ذلك الطفل يريد أن يعرف ما سبب إضاءة لعبته ليستمتع بها.. لم يخبره أحد أن يبحث عن هذا السبب، بل إنه لم يتواصل بعدُ مع محيطه بشكل كامل.
وذلك العالم الذي لن تسكن نفسه حتى يعلم ما سبب ذلك المرض.
وذلك المزارع الذي جنى محصولا وفيرا، يريد أن يعرف السبب في ذلك، ليعيد الكرّة وينعم برزق وفير.
إذا كانت هذه الأحداث البسيطة التي نعشيها تدفعنا دفعا نحو طلب الأسباب، فإن عقولنا لن ترضى أبدا بأن يقول لنا شخص ما: ما ترونه لا يوجد له سبب، هو هكذا وانتهى الأمر!
فطرية السببية !
في عقولنا وفطرنا مبدأ يسمى بمبدأ السببية، ويعني أن كل شيء وُجد بعد أن لم يكن موجودا – وهو ما يسمى بالحادث – فإنه لا بد من سبب قد أدى إلى وجوده.
لقد غُرس هذا المبدأ في فطرتنا كبشر، لا مناص منه لأحد، ولا يستطيع الإنسان الاقتناع بخلافه، ولا يحتاج إلى إقامة الحجج والبينات على صحته.. كما تعلم أنك موجود، كما تحس بذاتك، كما تأكل وتتنفس.. فأنت تعلم أن لكل شيء سببا، ولم يعلمك أحد هذا بل هو فطري وتجده ضرورة من نفسك، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: « لو ضُرِبَ الصبي ضربة، فقال : من ضربني ؟ فقيل: ما ضربك أحد لم يصدِّق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل» .
ولكونه فطريا..
أنت لا تحاول إقناع شخص يسير في صحراء فيرى في وسطها ساعة ملقاة على الأرض، جميلة متقنة الصنع، لا تحاول إقناعه بأنه لا سبب لوجودها هنا!
وإذا رأيت تمثالا لطفل صغير فلن يخطر ببالك إلا أن لهذا التمثال صانعا ماهرا، مع أن هذا التمثال مجرد صورة خارجية، ليس فيه حياة ولا عقل ولا أعصاب ولا أعضاء، ولا أي تعقيد، فما بالك بالطفل الآدمي الصغير الذي يروح ويجيء أمامك بكل حيوية وسرور.. لا بد له من خالق مبدع!
وإذا رأيت قصرا منيفا، مشيد البنيان، مزخرف الأبواب والجدران، في تلك الصحراء الموحشة القاحلة، فلن يخالجك شك في أن هذا القصر قد بناه بنّاء متقن.. ولن تفكر -ولو للحظة- أن عاصفة قوية هبت على مجموعة من الأحجار والأخشاب والإسمنت وأدوات البناء، فنتج عنها ذلك القصر!فكيف إذا قيل أنه حدث بدون سبب أصلا!
حقيقة لايستطيع عاقل مكابرتها !
نعم لا يستطيع عاقل المكابرة في مبدأ السببية، ولا يختلف على ضرورة وجود الصانع أحد من البشر البتّة، حتى الأطفال !
يقول المتخصص في دراسة الأصول النفسية والأنثروبولوجية للأديان جيمسلوبيا:
« تنتاب الدهشة كثيرًا من الناس وهم يشاهدون استيلاء سؤال الخلق على خواطر الأطفال، يشاهد الطفل حجرًا في تشكّل على نحو غريب، ثم يسأل: مَن صنعه؟ فيأتي الجواب: لقد تشكل بفعل انسياب تيار الماء. ولكنه وعلى نحو مفاجئ لا يلبث أن يقذف بسلسلة من الأسئلة المتعاقبة، المعبرة عن ذهوله بقدر تعبيرها عن تساؤله: مَن صنع النهر؟ مَن صنع الجبل؟ مَن صنع الأرض؟ مِن دون شك، ضرورة الصانع مغروزة في الإنسان البدائي منذ وقت مبكر»
بل حتى الخصوم، لايمكنهم المكابرة في ذلك وإن تظاهروا بخلافه، لهذا أفحم أبو حنيفة -رحمه الله- خصومه بمجرد تجلية هذه الحقيقة أمامهم، فقد روي أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى. فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أُخبرت عنه: ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر [فيها بضائع كثيرة]، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها؛ وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!!.. فما كان منهم إلا أن رجعوا إلى الحق.
كوننا وما فيه من مخلوقات دليل على وجود الخالق ﷻ !
إذا علمنا شدة رسوخ هذا المبدأ فينا بحيث لا تقبل عقولنا وجود تلك الأمثلة البسيطة بدون سبب، فلننظر في أمرين :
- في هذا الكون الذي نعيش فيه، كيف يدلنا على وجود الخالق؟
- وفي المخلوقات التي نراها حولنا، كيف نستفيد من علمنا بأنها لم تكن موجودة ثم وُجدت؟
أما كوننا هذا ..
ففيه دلالة باهرة على وجود الخالق ﷻ، فإذا كنا لم نستوعب أن يوجد تمثال لطفل صغير بلا سبب، فكيف سيكون هذا الكون قد وُجد بلا سبب؟! بل لا بد أن يكون قد أوجده خالق عليم قدير حكيم..
فأصل وجود الكون فيه دليل على أن له موجِدا، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك ما في الكون من إتقان وإبداع، وقوانين دقيقة يسير عليها؟ فلكل نجم مسار، ولكل كوكب وجهة هو موليها، ولكل مجرة مكانها الفسيح.
الليل يتعاقب مع النهار بشكل دائم، تقل ساعات النهار أو الليل بحسب الفصول، زيادة ونقصان دائم مستمر ومضبوط بضبط لا يتغير، بحيث صرنا نرتب حياتنا على هذا الأساس، ذلك لأن حركة الأرض حول الشمس منتظمة، ليس فيها عشوائية ولا فوضى.
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
لا شك سيزداد عمل مبدأ السببية في عقولنا؟ ولن نقبل وجود الكون بلا سبب؟ فنحن لا نتقبل فكرة سماع صوت قوي في البيت بلا سبب, فكيف بهذا الكون؟!…
والمخلوقات التي نراها حولنا فإنها تفرض السؤال ذاته .. مخلوقات لم تكن موجودة فوجدت.. بشر وأنهار وبحار وحيوانات.. كيف حدثت هذه المخلوقات؟ وكيف وجدت بعد أن لم تكن موجودة بصورتها الحالية؟
لا بد لذلك من سبب أخرجها من عدم الوجود إلى الوجود في عالمنا هذا..
إنه معنى عظيم… إن تأمُّلَ مسألة خلق المخلوقات المحدثة التي نراها كفيل بأن يهدي العقل والقلب إلى الخالق العظيم …
إن انقلاب المواد وتحولها إلى مواد أخرى مختلفة تماما عن المادة الأولى هو من الأمور التي تثير تساؤلا عميقا.. كيف تنقلب تلك المواد إلى أشياء أخرى جديدة، وتذهب المادة الأولى فلا نعود نراها؟! تأمل هذا التحول العجيب الذي نراه حولنا، في الإنسان والحيوان والنبات…
من منا يظن أن ماء مهينا سيتحول يوما ما إلى إنسان فيه عجائب من الإتقان… إلى إنسان له كيان وفطرة وغرائز..
إنه لم يكن شيئا يذكر، كان ماء مهينا، ثم تحول إلى بقعة من دم.. ثم صار الدم قطعة لحم صغيرة، ثم صار الإنسان لحما وعظما، صار له قلب وكبد وأعصاب، صار له عقل وكيان، فسبحان من {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} {الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَاْنِ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاْءٍ مَهِين}.
{أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئا}…
تذكر أيها الإنسان أنك لم تكن شيئا مذكورا، كنت ماء مهينا، فخلق الله ﷻ منه ذلك الخلق العجيب!
وهذه الحبة اليابسة الجافة، تخرج منها الشجرة التي تنبض بالحياة… أين ذهبت تلك الحبة؟ وكيف صارت شجرة؟
كل هذا لا بد له من خالق هيأ الظروف والأسباب.
هذا إذا نظرنا إلى كل مخلوق بمفرده، فكيف إذا نظرنا نظرة عامة شاملة إلى المخلوقات، بما فيها من تنوع شديد، وتكامل عجيب… ماء ونار، وحر وبرد، ومرض وشفاء.
كل هذا لا بد له من فاعل قدير ذي صفات كاملة، أوجد هذا التكامل الذي لولاه لما استمرت الحياة.
إنها حقيقة عظيمة تأسر العقول والقلوب.. هذا ونحن لم نتأمل إلا مجرد مسألة الخلق، فكيف إذا علمنا ما في المخلوقات من إبداع ودقة وإتقان، قد لا تستوعبه عقول بعضنا مجرد استيعاب؟!
ولذلك… إذا علمنا أن عقولنا وفطرتنا تفرض علينا أن لكل محدَث سببا، وعلمنا أن الكون والمخلوقات محدثة أي أنها لم تكن موجودة ثم وجدت، فهذا يعني: أنه لا بد لها من سبب أوجدها.
إنه الله ﷻ
لقد كانت المخلوقات التي نراها معدومة ثم وجدت..
فهل أوجدها العدم؟ لا فالعدم لا يوجد شيئا، وفاقد الشيء لا يعطيه.
هل أوجدت نفسها؟ كلا، كيف توجد نفسها وهي غير موجودة أصلا؟ أيتقدم الشيء على نفسه؟!
إذاً فقد أوجدها غيرها،
ولا يمكن أن يكون هذا الغير مخلوقا، لأنه لو كان مخلوقا لسألنا: من الذي خلقه؟ فإذا أُجبنا سألنا مرة أخرى: من الذي خلقه؟ فيتسلسل الأمر بلا بداية ويستحيل وجود أي شيء, كما يستحيل تحرك القطار ذي العربات المترابطة بدون العربة الأولى، ولا يمكن أن يكون هذا الموجد هو المادة الجامدة الصماء.. كيف تعطي هذه المادة الحياةَ وهي غير حية؟ وكيف تعطي العلم وهي لا تتصف به؟ وهل لها حكمة وإرادة لتوجد هذا التنوع في المخلوقات؟
ولا يمكن أن يكون فعلا عشوائيا، فالفعل العشوائي في النهاية فعل، ولا بد له من فاعل! والعشوائية لا تأتي بفعل متقن محكم كما هو الحال في الكون.
لا بد لها من مُوجِد خالق يختلف عن طبيعة الخلق التي تتسم بالحدوث بعد العدم، لا بد أن يكون الخالق غير مسبوق بعدم ولا متأثرا بخالق آخر, ويوضّح ذلك مثال القطار ذي العربات الكثير المترابطة الذي ذكرناه, فلا يمكن أن تسير العربات بدون العربة الأولى, فبدونها لن يبدأ التأثير فيما بعدها, ولن يتحرك ما بعدها, وهكذا الوجود المفتقر لمن يوجده, لا يوجد إلا بموجد مستغن لا يحتاج لمن يوجده, فإذا لم يوجد الخالق الذي لم يُخلق، فلن نكون هنا !
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }
هذه الآية لا تدل فقط على لزوم وجود خالق، بل إنها تشير إلى كماله… إنه ليس مثلكم أيها البشر، إنه خالق عظيم, إنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
لقد هزت عظمة هذه الآية قلب جبير بن مطعم قبل أن يسلم، وذلك لما ذهب إلى النبي ﷺ في فداء أسرى بدر، دخل المسجد والنبي ﷺ يصلي المغرب بالناس، ويقرأ سورة الطور.. يقول جبير: سمعْتُ النبِي ﷺ يقرَأ في الْمغرب بالطورِ، فلما بلغ هذه الْآيَة {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ}، قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ.
نعم، ولِمَ لا يطير -يا جبير-، فأنت أمام المعنى العظيم الذي صيغ في أحسن صياغة.
طريق الهداية
لقد سلك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هذه الطريقة في مجادلة من حجد ربوبية الله تعالى، وادعاها لنفسه.. لقد سلكوا الطريقة العقلية في التدليل على ربوبية الله تعالى، وبالتالي استحقاقه للعبادة وحده.
ففرعون لما أنكر ربوبية الله تعالى أخبره موسى عليه الصلاة والسلام بدلائل عدة على الربوبية، فذكره بأن الله ﷻ أعرف من أن يعرف، وأنه الغني الذي تفتقر إليه كل المخلوقات:{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِين}، فإن كان لهم يقين بشيء فأول اليقين هو اليقين بهذا الرب، لأن تلك الآيات الكونية التي ذكرها لا يمكن معها جحد الخالق ﷻ، ولا يمكن للإنسان أن ينكر وجود الخالق إذا رجع إلى معارف العقل الضرورية: {قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } .
وكذك النمرود لما اغتر بطول فترته في الملك ظن أنه لا إله غيره، وكأنه طلب الدليل على وجود إله غيره، قال له إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}
أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة، لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها موجد أوجدها.
ولقد أشار القرآن إلى هذا الدليل، وحثنا على التفكر في المخلوقات طلبا لليقين وزيادة الإيمان، وإقامة للحجة على وجوب عبادته وحده في مواضع كثيرة من كتابه، ولنتأمل هذه الآيات :
{أَمَّن خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنبَتنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهجَةٍ ما كانَ لَكُم أَن تُنبِتوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَل هُم قَومٌ يَعدِلونَ. أَمَّن جَعَلَ الأَرضَ قَرارًا وَجَعَلَ خِلالَها أَنهارًا وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حاجِزًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ. أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ. أَمَّن يَهديكُم في ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ وَمَن يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمّا يُشرِكونَ. أَمَّن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُل هاتوا بُرهانَكُم إِن كُنتُم صادِقينَ} .
⇐ منقول من : صفحة المُيسّر في تعزيز اليقين
بورك فيكم وفي جهودكم