تعزيز اليقين

طوفانُ الإلحادِ (١) (التّأثيرُ والتّأثُّر)

شيءٌ من الإفاقةِ، وقليلٌ من التّحسُّس؛ كفيلانِ لاكتشافِ أمره، والذهولِ من قدرته وفتْكه.

مزيدٌ من التأمل وكثيرٌ من الفحصِ يوقَفانِ على خطرٍ قادم وليلٍ داهمٍ.

طُوفانٌ تمتدُّ جذوره في حِقَبِ التاريخ، يظهرُ ويغيبُ، يخبو ويلمعُ، يَسحرُ ويبهرُ، ويلتهمُ ويفتِكُ، يفسدُ ويخربُ، يُقلقُ ويُشكّك.

إنه امتدادٌ لسلسلة الحروب التي تغزو العقولَ قبل الأبدان، وتدمِّر الأفكارَ قبل الأجساد، حين أيقنَ الأعداء أنَّ الحروب في ساحاتِ الوَغى والدماءِ لم تُجدِ شيئًا مع أبطالٍ اتخذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم قائدًا لهم، وأجيالٍ اتخذَت محمدًا صلى الله عليه وسلم أُسوةً لهم.

حينها وجدَ الأعداءُ بُغيَتَهم في غزوٍ من نوعٍ آخرَ أشدُّ فتكًا، وأعظم أثرًا، وأقسى ألمًا، دون مزيدِ خسائرٍ في الأرواح ولا سفكٍ للدماء.

لقد كانت الحروب الكلاميّةُ التي شَنَّها أعداءُ نبينا صلى الله عليه وسلم ذَمًّا فيه وفيما جاء به قاسيةً ومؤلمةً، غيرَ أنّ الله كان معه مؤيدًا وظهيرًا، ومؤسِّسًا لحصونِ الدّفاع ضدَّ تلك الحروب في كلّ زمانٍ ومكان فقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥١، ٥٢]

وقال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣]

ومنذُ ذلك اليوم وما زالت حروبُ القوم وأذنابُهم تُثارُ ضدَّ القرآنِ والرسولِ والدين والشريعة؛ في أعاصيرَ متكرِّرَةٍ تضرِبُ سواحلَ الإيمان في القلوب بمَوجاتٍ عاليةٍ من التّشكيكِ، تضطرب منها بعضُ القلوبُ، وتُقَاوَم من بعضٍ آخر، وتضعِفُ قلوبًا أخرى سامحةً لها بالدّخول؛ فلا تسَلْ بعد ذلك عن مستوى الدّمارِ الذي يُخلِفه الإعصارُ في القلوب، ولا تَعجَب من حالةِ الانقلاب الفكريِّ الذي يحِلُّ بالأذهان، ولا تذهلْ من جَحافِل المتمرّدينَ على الثّوابتِ والقيم.

إنّ حربَ التّشكيكِ الناعمةِ أضحَت تتسللُ إلى الأجيال الصّاعدة بكلِّ سهولةٍ، وتَنساب في العقولِ بكلِّ لطفٍ، وتُزخرَف في الأذهان بكلِّ وجه جميلٍ، ليتلقَّفها فِئامٌ من هذا الجيل تشابهت أحوالُها، واتّفقَت مشاعرُها، وتقاربَت أفكارُها فوجدَت فيها بُغيتها المَوهومةَ، وسعادتَها المزعومة، فأشرعَت أبوابَ القلوبِ لأفكارها، وهيّأت المجالسَ لتَشكيكاتها، ووطّأتِ الفرُش لشُبُهاتها؛ حيث لا إلٰهَ ولا أديان، ولا رسُلَ ولا كتب، ولا بعْثَ بعد الموتِ ولا نشور، ولا جزاءَ ولا عقاب ولا جنةَّ ولا نار.

الإلحاد واللّادينية واللّاأدرية والرُّبوبية والدّاروينية

وإن تعدّدَت أسماؤها واختلفَت في بعضِ تفاصيلها؛ فالمؤدّى النهائيُّ لها بالنسبة لأهل الإيمان واحدٌ، حين يُنزَع من المؤمنِ إيمانُه ويُسار به إلى حيث وديانُ الكفرِ الموحِشة، ووحوش الفَلاة المهلِكة.

الإلحاد موجَةٌ عاليةُ الفتكِ هذه الأيام؛ حين أحسنَ دعاتُها استغلال الأوضاع، وانتهَزوا فُرَصَ النّفوذ، ونوّعوا أساليب الهجوم، وزخرفوا الشُّبه بألبسةِ الحريةِ والتقدمِ العلمي.

فوجدوا شبابًا وشابّاتٍ يصارعون رغباتٍ وشهَواتٍ في مجتمعٍ يَدين أهلُه بتعاليم الإسلام والطُّهرِ والنقاء، ويجرِّم الخروجَ عن حدود العفّةِ والكرامة.

وجدوا شبابًا وشابّاتٍ تجاوزَت مصادرُ المعرفة عندَهم ما كان عليه آباؤهم، فاستصغروا معارفَ الآباء أمام سيلِ التِّقنيةِ، فلم يبقَ لنصائحهم فائدةٌ ولا لتوجيهاتهم قَبولٌ ولا أثر.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ قد أسرفوا في شبكاتِ التّواصل الاجتماعي بلا تحصينٍ، ولا علم متين، وانجرفوا في سيلِ الرّوايات الجاذِبة، والأفلامِ الحالمة، والمسلسلاتِ الأجنبيّة الممتعة التي تَنقُل بالطبع ثقافاتٍ فيها صوابٌ يسير وخطأٌ كثير، ولكن دون فرزٍ بين ذلك ولا تمييز.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ قد تلقّفوا بأساليبَ غيرِ مباشرةٍ أسئلةً أربكَت عقولهم، وزلزلَت مبادئَهم، كتموا أمرَها عن أقربِ الناس لهم خشيةَ الكبْتِ منهم والتّعنيفِ، وحاولوا البحث بأنفسهم عن إجاباتٍ لها فلَم يجدوا إلّا المزيدَ من الوَهم والتشكيكِ.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ يتوافدونَ على بلاد الغرب دراسةً وسياحةً فيُبهرهم ما عندَهم من التّقدمِ الماديِّ في جميع شؤون الحياة فيكرهونَ ما كانوا عليه من الانغلاقِ والتّخلُّف – زعموا – فيعودونَ برغبةٍ جامحةٍ في التغيير؛ لا في الماديّاتِ فقط، بل وفي الروَّحانياتِ كذلك.

 وجدوا شبابًا وشاباتٍ يمرُّون بصراعاتٍ عائليةٍ وعُقَدَ نفسيةٍ فيحاولون النجاةَ منها بلا نتيجة، ويمدّونَ أيديهم فلا مُعينَ، فيزدادُ شكُّهم في قدرة خالقِهم ورحمته وحكمته، وتُريحهُم من كلِّ ذلك فكرةُ الإلحاد وواللادينيّة.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ استعصَت عليهم مسالةُ الإيمان بالقضاء والقدر حين تشعّبوا في تفاصيلِها بلا سببٍ، وخاضوا غِمارها بلا حُججٍ، فأضاعوا الطريق السّليم، وسلكوا طرقَ الغِواية والهلاك.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ يَرْثون لحالِ أمّتهم الممزّقةِ وأحوالِ أهلِها المؤلمة، فيُملي لهم الشيطان أنْ لو كان هذا هو الدينُ الصحيحُ لما تفرق أربابُه ولما اختلف معتنقُوه، ثم يُسوِّل لهم النجاةَ من ذلك بخوضِ غمار الحرّيةِ والإلحاد.

وجدوا شبابًا وشاباتٍ لديهم جَفافٌ روحيٌّ مع اندفاعٍ وعجلةٍ، واعتدادٍ بالذات وغرورٍ معرفيٍّ كبير، فمَن أجاد منهم بعضَ اللغات واطَّلع على بعض العلوم والنظريات، وشاهدَ العديد من المقاطعِ والوثائقيّاتِ ظنَّ أنّه حاز السَّبْق، واستطاع أن يُحلل ويَتأمل، ويَقبل ويَرفُض أيَّ شيء من كل شيء! ما دام لديه عقلٌ يرفضُه أوْ لا يستوعبُه.

ووجدوا شبابًا وشاباتٍ لديهم أسبابٌ خاصةٌ يصعب حصرُها، فدخلوا على كل واحدٍ من طريقِه المناسِبةِ، وأوغَلوا في عقلِه من أبوابه المشرَّعة.

فماذا فعلوا بعدَ أن وجدوا ووجدوا؟

لقد رأى الأعداءُ أن ساحة الحرب مهيأةٌ للهجوم؛ فبدأوا في مَوجة تشكيكٍ هي في غالبِها: “هَدميّةٌ بلا بناءٍ، فوضوِيّةٌ بلا مَنهج، تُثير الإشكال وتُبرِزُ الاعتراضاتِ ثم لاتقدِّمُ رؤيةً ولا فكرة بديلةً متماسِكة.

فليس هدفُها الآن نفيُ وجود الإلٰهِ وإنما الهدفُ الآن هو نقدُ الدين وتعاليمِه، والهجومُ على القرآن والسنّةِ لنسفِ قواعدهم في القلوب المؤمنة، وذلك بحُجّة الحريةِ في طرحِ العديد من الأسئلةِ المفتوحَة دون حدودٍ دينيةٍ ولا علميّةٍ ولا معرفيةٍ.

كما إنهم ليُزخرفُون حمْلَتَهم بالشعاراتِ ذاتِ البريق والجاذبية باسمِ تحريرِ العقل ونقد الموروث ورفضِ الوِصاية ونحوِ ذلك مما فيه إجمالٌ يحتاج إلى تفصيلٍ وباطلٌ يحتاجُ إلى تمييز”(١).

والله غالبٌ على أمره وهو القائلُ سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: ٤٠].

والقائلُ جلّ وعلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: ١٨٠]

فلا خوفَ على دين الإسلام من تلك المَوجاتِ، وإنما الخوفُ على أبناء المسلمينَ وبناتِهم في ظِلِّ هذا الزَّحف الشَّهوانيِّ المنفتِح، ومَوجاتِ التشكيكِ التي طالَت كلّ الثوابتِ والقيَم، وفي ظلِّ غفلةٍ من الآباءِ وأهلِ الاختصاص.

فماذا لو وقع نظرُ شابٍ طموحٍ فتيٍّ جريءٍ على قولِ أهل الإلحاد في تهويل إلحادِهم بأنه:

“خَيارٌ شجاعٌ يركُن إلى العقلِ وحدَه، فيرفُضُ عن وعيٍ: الإيمانَ بخالقٍ وبأيِّ شيءٍ دون برهانٍ ساطعٍ؟ إنه قناعةٌ راسخةٌ مبصرة تحبُّ النور وتَمقُتُ الظلام”[1].

يالهُ من تعريفٍ مُبهر للعقول المبتدئةِ في التّلقي، القاصرةِ عن النّقدِ والتحرّي، وياله من تعريفٍ يُلامس في المراهق طبيعةَ مرحلتهِ النفسية، ويُشجّعُ للاندفاع والتّهور.

هكذا كان دعاةُ الإلحاد يتصيّدونَ أبناءنا في منتدياتٍ ولقاءاتٍ وكافيهاتٍ ومقاطعَ مرئيةٍ ومقالاتٍ صَحفيّة، وقصص روائيّة وغيرِ ذلك.

 وهنا قد وجبَ أن نترُكَ صفةَ التّهوينِ للقضيّةِ ونحمِلَ أسلحةَ المواجهة والمقاومة، ونعملَ بجدٍّ لإنقاذ الأبناءِ من نيُوبِ الإلحاد المُميتة.

انظر:

طوفان الإلحاد (2) (التَّحصينُ والعلاج) 


[1] براهين وجود الله (ص١١٣).

الكاتب: سامي بن محمد العمر

المراجعة: إيمان الحبوباتي

التدقيق اللغوي: بتول الزعبي

التصميم: ندى الأشرم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى