تعزيز اليقين

طوفان الإلحاد (٢) (التَّحصينُ والعلاج)

الإلحاد في اصطلاحاتِ أربابه اليوم: هو إنكارُ الرَّبِّ الخالق، وما يتَّصل بذلك من المغيَّبات، ممَّا ينتج منه: أنَّ الكون مادَّةٌ وطاقةٌ وحركةٌ عمياء، وأنَّه أزليٌّ أو حادثٌ بلا سبب، وهو عالَم فاسد بما فيه من شرور، وأنَّ الأخلاق مجرَّد قيمٍ تنشأ من أذواق النَّاس، فليس للحياة غاية، ونهايتها الموتُ بلا حكمة[1].

وعندهم أنَّ المعتقدات واليقينيَّات إنَّما مصدرها الحسُّ والتَّجربة، وأنَّ العقل قادر على تصوُّر كلّ شيء والإحاطةِ به، وإن لم يمكنه ذلك فلا إيمانَ حينئذ.

لقد وصف الله لنا أصولَ هؤلاء في بعضِ آيات فقال:

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } [الجاثية: 24 – 27].

فهذه بذرةُ الإلحاد الّتي لا يمكن أن تنمو في قلوب الشَّباب والشَّابات إلَّا إذا وَجَدَتْ تربة تحتوي مادتُها على عنصرين:

  1. نفسيَّة ضعيفة لشابٍّ أو شابّةٍ مرّت بمواقفَ عصيبة من الضغوطات، والخلافات، والجفاف العلميّ والعاطفيّ؛ الذي ينشأ منه كراهيَّة الحياة والرَّغبة في النِّهاية والفناء.
  2. نزعات الكِبْر والغرورِ والتعالي والتمرُّد والخروجِ عن المألوف؛ رغبةً في إغاظة كلِّ من يجلب لهم العناء بزعمهم، وبحثًا عن حلول لمشاكلهم ولو كانت وقتيَّةً وَوهْميّة.

فإذا وُضعت البذرة في تلك التربة، ثمَّ جاء المجرمون من دعاةِ الإلحاد لسقيها بمادتي الشُّبهات والشَّهوات؛ أثمرت -عياذًا بالله- فئات تقتنع بتلك الأطروحات، وتتقبَّل ما فيها دون تمحيصٍ ولا وعي.

ولذا؛ فمن المهمِّ في هذه الفترة أن يلتفت الآباء والمربُّون إلى أساسات المشكلة، وجوانب الخلل الماضية؛ مسارعةً في الإصلاح، وعزيمةً على التَّعديل والتَّقويم حتّى النجاح، وفق المنارات التالية:

  • 1- العودةُ الجادَّة لتعزيزِ الإيمانيَّات في القلوب، وتنويع الخطابِ في عرض التَّوحيد بأنواعه الثلاثة، والحثُّ على التأمل في خلق الله سماء وأرضًا، إنسًا وجنًّا، حيوانًا وجمادًا ونباتًا: 

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32، 33].

يالله!، كم قصَّرنا في عرض قدرةِ الله في خلقه، وعظيمِ صنعِه في كونه، ممَّا يزيد المؤمن ثباتًا ورسوخًا أمام هجمات الكفرِ المُتلاحِقة.

  • 2- وثاني تلك المناراتِ لمواجهة أعاصيرِ الإلحاد: تلمُّس نفسيَّات الأبناء وحاجاتهم، والحرصُ على الهدي النبويِّ المحمَّديّ في التعامل معهم بكلِّ لطف وحنوّ، ورغبة فيما ينفعهم، دون لينٍ يوقعُهم فيما يضرهم، ودون غفلةٍ عنهم بدنيا فانيةٍ ولهوٍ زائل، فالأبناءُ أحوج النَّاس اليوم لأوقاتِ الآباء والمربِّين، وأوجبُ مَن تُصرَفُ لهمُ الاهتمامات وتُخطَّط لهمُ الأعمال والمشروعات.
  • 3- أنَّه يلزم في مواجهة أعاصير الإلحاد: حفرُ الخنادق في نفوسِ النَّاشئة، كما صدَّ الأحزابَ الخندقُ الذي حفره المسلمون في الأرض ليَحولَ بينهم وبين الوصول إلى المدينة، وليحميَ موطن الإسلامِ من أعداء الإسلام، فلْنحملِ المعاولَ لنحفر خندقًا جديدًا يمنع الإلحاد والفساد والفسوق والعصيان أن يصلَ إليهم، وليحميهم من كيد شياطينِ الجنّ وشياطين الإنس جميعًا[2]ولا يكون ذلك إلا بالعودة الصَّحيحة لكتاب الله وسنَّة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- تعلُّمًا وتعليمًا، تدريسًا وتفهيمًا، وتنوّعًا في الطّرح، وإبداعًا في الإخراج.
  • 4- عليكم أيُّها الأبناء واجب البحث والتّحري في كلّ ما يواجهكم من شبهاتٍ وآراء مزخرفات، وأيْقِنوا أنّه ما من شبهة وطرح يسلب ألبابكم، ويأخذ بعقولكم؛ إلّا وله غطاءٌ خارجيٌّ مزخرف، وتعليب جميل، وفي دينكم من الحُجّة ما يمكنه أن يزيل تلك الزخارف ويمزّق ذلك التعليب: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].

فاسألوا علماءَكم وآباءكم وأساتذتكم، وليبحثِ الجميع عن الجواب؛ فإنَّه موجود، وإنّما يخفيه تهاوننا وكسلنا وخمولنا عن نصرة الحقِّ.

5- أيُّها الآباء والمربُّون: اعلموا أنَّ الإلحاد إذا حلَّ بالنُّفوس فإنّه ضيف ثقيل مقيت، سهلٌ دخوله، عسيرٌ خروجه، فإنْ أُهملَ زاد رسوخًا في النفس وبقاءً.

واعلموا أن خصومَ الإسلام في ازدياد، وأنّ سير الإلحاد في اطّراد، وأنَّ العلوم الغربيَّة زاحمتِ العلوم الإسلاميَّة على نفوس شبابنا فافتتنوا، وهم شبابٌ متطلّعٌ إلى الكمال، توّاق إلى السَّبْق، وهو يريد أن يكونَ كزمنه وأبناء زمنه[3].

وإيَّاكم أن تناولوا كل لصٍّ مفتاحَ الباب الذي يريد أن يدخل منه إلى عقول النَّاس ليستغرَّهم ويزلزلهم من جنَّة الإيمان إلى جحيم الإلحاد في الدين[4]، فإنَّ انهدام مساجدِ الإسلام كلَّها حتّى ما يبقى منها حجر على حجر؛ أهون في نظر الإسلامِ نفسه من ضمن دخول الإلحاد على قلبِ شابٍّ مؤمن، فالإسلام لَبِثَ ثلاث عشرة سنة من غير جامع، ولكنّه لا يبقى ساعةً بغير إيمان ولا أخلاق[5].


[1] من ك براهين وجود الله (ص٦١).

[2] ذكريات – علي الطنطاوي (٣/ ١٨٨).

[3] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (٣/ ٥٥٠).

[4] جمهرة مقالات محمود شاكر (١/ ٤).

[5] مقالات في كلمات – علي الطنطاوي (ص: ١١٤).

الكاتب: سامي بن محمد العمر

المراجعة: إيمان حبوباتي

التدقيق اللغوي: فاطمة الزعبي

التصميم: ندى الأشرم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى