بعد أن عرفَ نعيمَ اليقِين بعلم الحديث، يتساءل …؟
أين ستكُون قد وصلت البشرية اليوم لو لمْ تكُن تؤمن بـ«تـهادُوا تحابُّوا»(1) ؟!
وماذا كانت ستُعطي هَذِه الخَلائق مِن دُون مَنبع: «أفشُوا السَّلام ،، وأطعِمُوا الطَّعام»(2) ؟!
حسرتي على أقوامٍ دفنوا الجمال كلَّهُ، وقَطعُوا طُرقَ العِلْم المُنِير والعَقلِ القويم تحت ظلال أشواك إنكار السُّنَّة النَّبويَّة، وردِّ مَنهجِ المحدِّثين..
آه ثمَّ آه على توهُّم العقلانيَّة..!!
لمَّا قلنا بِمَلئِ الفاه، وكلِّ اليقين أنِ: “اضربوا في الأرض كما شِئتُم، وابحثُوا عند أهل الأمم كما شِئتُم، لن تجِدُوا تحرِّيًا كالتَحرِِّي الذي أُلهِمَتهُ هذه الأمَّة بهذا المنْهَج” ..
ظنَّ من يخشى القراءة والإطِّلاع والمعرفة أنَّها تعبيرُ أهلِها وشهادةٌ من داخل الصَّف، والآن قد وصلت بنا غُربة الدِّين في هذا العصر أن نعرضَ كلماتٍ من خارج الدِّين، بل من أعداء الدِّين مِن المُستشرقين إذ قالوا: “والمسلمون مُحِقُّون في الفخر بعلم حديثهم”(3).
وقالها من جانبٍ آخر “أسد رستم” –أحد أشهر علماء التاريخ في القرن العشرين– وهو لبناني نصراني كان يدرِّس بالجامعة الأمريكيَّة ببيروت، واصفًا تلك القواعد والضوابط المنهجية في علم الحديث: “قواعدٌ لا تزال في أسسها وجوهرها مُحترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا، …. وكنتُ كلما ازددت اطِّلاعًا عليها، ازدادَ ولعِي بها وإعجابي بواضعِيها“(4).
وحتَّى الكاتب المعروف (برنارد لويس) رئيس قسم التاريخ في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن، ثم في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية، أستاذ التاريخ الإسلامي في قسم دراسات الشرق الأدنى، وهو صاحب المُخطَّط الغربي لتفتيت العالم الإسلامي، في كتابه: «الإسلام في التَّاريخ»؛ تحدَّثَ عن اهتمام المسلمين الأوائل بباب الخبر والرِّواية وعنايتهم به ومهارتهم فيه، وعن «علم الحديث» بالخصوص: “نجدُ أنَّ الفحصَ الدَّقيق له (أي لعلم الحديث)؛ باعتنائِهِ بسلاسِل السَّند والنقل وجمعها وحفظها الدقيق من المُتغيِّرات في السَّردِ المنقول: تُعطِي التَّأرِيخ العربي في القُرون الوسطى احترافًا وتَطَوُرًا لم يُسبَق لهُ مثيل في العصور القديمة!! والذي بُمقارنتِه بالتأريخ المسيحي اللاتيني: يبدو الأخيرُ فقيرًا هزيلًا!”(5).
فهذِه بيْن يَديْكَ إِضَاءاتٌ مُتفرِّقةٌ، أو نُبذٌ يسيرة، في خصائِصِ هَذا المَنهج، تُطلعك على مراحل البحث والفحص في عملية تصحيح الأحاديث وتضعيفها، لعلَّنا نَتمكَّن -بعون اللَّه- من إِنَارة طريق الغافلين…
- المَحطَّةُ الأولى:
نقدهم وفحصهم للسند – وهو حكاية طريق المتن –:
لا يوجَد حرفٌ واحدٌ نطَق به النَّبِيُّ ﷺ، ولا شعرةٌ وُصفت في جَسِده، ولا خُطوةٌ خطاها في حِياتِه، إلَّا ويعلمون من سَمِع الحرفَ منهُ أو رآها تلكَ الشَّعرة بعينِه، أو حضرَ الخُطْوة معَه، ومن سمِعَها من ذلك السَّامع، وهكذا مُسَلسلًة إلى أن دُوِّنَت في الكتب.
فإِذا وجَدُوا فِي تِلكَ السِّلسلَة كُلِّها إنسَانًا واحِدًا إمَّا كذَّاب، أو كثيرَ الخَطأ، أو شدِيد الوَهم، أو فِيه غَفلة: يُسقَط ذلك المروي كاملًا.
حتَّى لَو كان فِيه عِشْرونَ رَجُلًا، وكلُّهُم أئِمَّةٌ ثِقاتٌ ضَابطُون، وفِيهِ إنسَانٌ واحدٌ مغفَّل، يُسقَطُ الكل ولا يُأبَهُ به..!!
ولا يظن الظانَّ بأن الشرود من تهمة الغفلة والخطأ من السهولة بمكان فإنَّ: ” الأئمة كثيرًا ما يجرَحُونَ الرَّاوي بخبَرٍ واحِدٍ مُنكَرٍ جاءَ به، فضلًا عن خَبريْن أو أكثر”(6)!!!.
ولا يكفي هذا التوثيق لرجال السند! اعلم أيضًا أنَّ من شُروطِهِم أن تُوجَد معلومَة صحيحة أكيدة تُثبِتُ اللِّقاءَ والسَّماع بين الرَّاوِي والشَّيخ. حتَّى لو كان الرَّاوي ابنًا للمَرويِّ عنهُ، فقَد نفى الأئِمَّةُ صِحَّة سماع أبو عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبِيه لأَّنه لَم يثبُت الأخذَ عنه، وحكَمُوا على روايتِهِ عن أبيه بالإنقطاع!!!
[إلا إن كانت القرائِن الواردة تُغني عن المعلومة الصريحة بالسَّماع]
وأيضًا: لا يكتفِ المحدثون بأي صيغة سماع ورواية وإنَّما هناك أنواع، ومراتب، ودرجات تفاضُليَّة في طُرُقِ التلقِّي، فهل حصلَ لك أوثَق تلك الطُّرق حتَّى يتجاوزَ المحدِّثون عنك، أم ما دون ذلك فيُضعِّفون حديثك!
- المَحطَّةُ الثَّانية:
لم يكتفِ المُحدِّثون مع كلِّ ذلك!! حتَّى توغَّلُوا في البحثِ والنَّقدِ إلى ما يروِيهِ المُحدِّث عمَّن سَمِع منه، هل ((كلُّ)) ما يُحدِّثُ به قد سمعه منه، أو أنَّهُ يُحدِّثُ عنه بأشياء قد سمعِها من غيرِهِ، وأَوْهَمَ أنه قد سمِعَهَا منه..؟؟ وهو نوع من أنواع: «المُدَلِّس». وبذلك استوْفَت نظرةُ المُحدِّثين كافَّة أوجه الإحتمالاتِ في اتِّصالِ السَّندِ وانقطاعِه، لِتأتِيَ أحكَامهم عليه في غاية الصِّحة والسَّداد والدِّقة(7).
- المَحطَّةُ الثالثة:
لا ينتهي الأمرُ عندَ قولِهم عن فلان بأنَّهُ ثقة! مع أنَّ هذه الكلمة تُفنى فيها الأعمَارُ والدُّهور حتَّى يحصُلَ الإنسانُ عليها. وما أسرع ذهابها منه!
إنَّما أيضًا هُناكَ مراتِبٌ للثِّقات وتَبَايُناتٍ واختِلافَات، وفلانٌ أوثَقُ من فلانٍ في الشِّيخِ هذا، وفلانٌ ذاك هو أوثقُ من الآخر في الشَّيخِ الآخر!! وفي أيِّ الأماكنِ كان الرَّاوي حافظًا قويًّا، وفي أيِّها ضعيفًا أو لا يحفظ! ومتى اختلَطَ عليهِ حِفظُه؟ ومتى أضاعَ كُتبَهُ التي يُحدِّثُ منها! وماذا أصابَهُ من همٍّ أو مصيبةٍ في حياتِه فأنستْهُ شيئًا من حديثِه…!!
بل: وفي أيِّ المواضيعِ والأبوابِ هو أحفظُ وأوثَق؟!
- المَحطَّةُ الرَّابعة:
ولو حَصلَ أحدُ الرُّواة على وِسَامِ “الثِّقَة”، فَمِنْ حينَها تبدأُ متابَعتهُ إلى حين وفَاتِه! هل اختَلطَ فِي آخِر عُمُرِه؟ هل تغيَّر حِفظُه؟ وَمَن الذين سَمِعُوا منه قبل الإختِلاط؟ وَمَن بعده؟ وَمَن الذِين سَمِعُوا منه ولم يتبيَّن متى كان سماعُهُم..!!
وافتح كتب الرِّجال تجد من ذلك أمثلة عديدة!!
“لقد تنبه علماء الحديث إلى أن الرواي الثقة -وهو العدل الضابط-، قد يقع منه الخطأ والوهم، فيُدرج في متن الحديث ماليس منه، أو يقلب في متون بعض الأحاديث وأسانيدها، وقد ينسى، وقد يقع منه تخليط في شيخوخته، وبداية هرمه، وقد يكون ممارسا متنقنا لأحاديث شيوخه إلا واحدا منهم لم يتمكن من وإتقانه وممارسته، وقد يكون الراوي سمع شيخه ولم يتنبه إلى عيب في نطقه ولسانه فغيَّر الحرف والكلمة، وقد يذهب الراوي في سند وهو يريد غيره، وقد يروي بالمعنى فيختصر الحديث فيغير حقائقه وهو لا يشعر”(8).
- المحطة الخامسة:
من نظَرَ في منهج المحُدِّثين، عَلم أنَّ الأصل فِي النَّاقل والمَرويِّ عَدَمُ القُبُول، حتَّى يَثبُتَ العكس.
(لأنَّ المُعدِّل يُخبِرُ عمَّا ظَهَرَ من حالِه، والجَارِحُ يُخبِرُ عن باطنٍ خفيٍّ على المُعدِّل، مع إستثناءات ….)
ولذلك كلُّ مجهولٍ لا يعرفهُ المُحدِّثون، ولا يعرفون حاله وأخباره ومرويَّاته، لايقبلون حديثه، ولو عدَّلهُ ووثَّقهُ الأئمة الحُفَّاظ كأن يقولوا: “حدَّثني الثِّقة“، فهو توثيقٌ مردود غير مقبول.
وذلك الراوي المُختلِط، -وهو الذي تغيَّر حفظُه في آخر عمره أو فترة من حياته-، إذا لم يرد الخبر بالتفصيل من سمع منه قبل اختلاطه ومن سمع منه بعداختلاطه = فإنَّهُم يُضعِّفون ما ورد عنه جميعًا..!!
ومن وجهٍ آخر، وهو الإحتياط التام حين الشك وعدم اليقين: قال الخطيب البغدادي: “وإن كان الحديثُ الذي شكَّ فيه لا يعرفُه بعينِه لم يَجُز لهُ التَّحديث بشيءٍ ممَّا في ذلك الكتاب”(9).
وهذا موقفٌ من كثيرٍ سواه…:
قال الحسين بن حريث المرزوي: سألت علي بن الحسين الشقيقي، هل سمعت كتاب الصلاة من أبي حمزة؟
قال: الكتاب كله، إلَّا أنَّهُ خَفِيَ عليَّ حديثٌ أو بعضَ حديث، ثم نسيتُ أي حديثٍ كان من الكتاب.. فتركت الكتاب كله(10)!!!
- المَحطَّةُ السَّادسة:
كلُّ الفحصِ والتَّمحِيصِ ذَاك كَان على السَّند فقط! ومِثلهُ الآن عَلى المَتْن! ولَو كان السَّندُ ما كَان! فينْظُرُون في المَتنِ هل تَمتنعُ صِحَّتُهُ أو تبعُد؟ هل يُخالِف صريح العَقل أو الحِسَّ؟ هل فِيه ركَاكةٌ في اللَّفظ أو المَعنى؟! يُخالفُ الكِتاب أو السُّنَّة الصَّحيحَة؟ أو أصول الدين وقواعده ومقاصده؟ أو يخالف الثابت في التاريخ؟
” كلُّ حديثٍ رأيته يُخالف المعقُول، أو يُناقِضُ الأصول، فاعلم أنَّهُ موضوع، فلا تتكلَّف اعتباره “(11).
من أجلِ ذلكَ ظهرت أقسام وأنواع للأحاديث هي مُختصَّةُ بالمتن فقط، كـ”مُشكل الحديث”، و”غريب الحديث” أو “مختلف الحديث”.
- المَحطَّةُ السَّابعة:
حتَّى الكُتب والنُّسخ دخلت في منهجهم المُعُجِز! وتوثيقُهم للكُتبِ كتوثِيقهم للرُّواة، فنسَخُوها، وصحَّحُوها، وقرَّؤُوها، ووضَعوا القواعد للنَّسخ والتَّصحيح، وتركُوا الرِّواية عن الغيرِ معتمدة عندَهُم(12)!
كفاك الآن كفاك، فلا الكتابُ المجيد سيتيحُ لك هذا الرَّفض الذي تعيشه..ولا الواقع الحياتي سيُعطيك المثاليَّة التي تعتقًد أنَّك تتقرَّب إليها..ولا المنهج التاريخي العلمي سيتبرَّع لك بحُجَّةٍ واحدة..
واعلم .. أنَّ خَيْرَ مَالَازَمَ القَلْبَ: الْيَقِين