عرض ونقد

حلول عملية تساعد في التخلص من الوسواس القهري في العقيدة


    هرعَت إلى صلاتها هاربةً من الوساوس المُزعجة والتساؤلات غير المنطقية التي تلاحقها دون إرادة منها علّها تجد مخرجًا

بدأت صلاتها:

 “اللهُ أكبر ، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين …”  تكرر الصوت أيضًا رُغمًا عنها: لمن أصلي؟ فأجابت: للّٰه، هل اللّٰه موجود حقًا؟ –نعم

-أين هو؟ على العرش استوى

-هل هو جسم؟، كيف استوى على العرش؟، ما شكله؟، كيف وجهه؟..

وهكذا شردَت في هذه الوساوس المُزعجة التي تلاحقها! ثم أفاقت من شرودها  فإذا بها  تُفاجَأ أنها قد أنهت صلاتها..

“السلام عليكم ورحمة الله”، ثم انفجرت في البكاء، شعرت بأن صلاتها غير مقبولة فهي لم تكن خاشعةً في صلاتها، بل تقريبًا لم تعي منها شيئًا!

أعادت صلاتها مرارًا وتكرارًا وعاد الصوت في كل مرة، سئِمت من نفسها ومن ثَمَّ قررت أنها ستدعُ صلاتها إلى أن يموت ذاك الصوت.

كانت قبل ذلك قد اتخذت قرارات أخرى بعد سلسلة من الأفكار التي تلاحقها ولا تستطيع أن تفرّ منها فقرّرت الانعزال عن الناس  وقررت أيضًا التّوقف عن قراءة القرآن وها هي أخيرًا تترك صلاتها. هي لا تفعل ذلك رغبة منها وحبًّا في ترك الطّاعة؛ بل هي مضطرة لذلك زاعِمةً أن هذا الصوت المدمّر الذي يتكرر بداخلها سوف يتوقف بهذا القرار؛ فلقد بكتِ الليالي والليالي وهي تحدث نفسها: “هل أنا كافرة؟ هل أنا منافقة؟ أم يا تُرى هذا الصوت سببه فِسقٌ في قلبي؟ حتى أصبحت تعيش جسدًا بلا روح.

لقد زعمت أنها بهذا القرار ستستريح من هذا الصوت وتتخلّص من هذه الوساوس. لم تكن تدرِك أنها هكذا قد وقعت في الفخّ فأحكم الشيطان عليها المصيدة.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، الحمد لله الذي أوحى لرسوله الكريم سيدنا محمد _صلى الله عليه وسلم_ أنه ما من داء إلا وله دواء علِمَه من علمه وجهله من جهله. 

الحمد لله الذي خلقنا وأعلمنا أنّنا في دار بلاءٍ ولسنا في دار الهناء، وأنّ جزاء الصبر عظيمٌ عظيم.

أما بعد:

فما ذكرناه آنفًا قصّةٌ نموذجية وحوارٌ تخيّليٌّ يعرِض للكثير فيواقعنا ممن أُصيبوا بهذا الابتلاء “الوسواس القهري”.

ولعله يشقّ كثيرًا على من أُصيب به فلا يكادُ يتحمله لأنه مُخالِفٌ لما يعتقده في قلبه من العقيدة الصّحيحة بالله عز وجل.

فقد يظنّ نفسه أنه قد خرج من الدين وقد يصف نفسه بالنفاق والفسق؛ فهذه الوساوس تُؤرِقُهُ، وتُؤلم روحه، وتُرهِقُ قلبَه فيظن لوهلةٍ أنها لن تتوقف وأنه سيظلُّ يعيش حياته هكذا لا يخرج من جحيم هذه الوساوس.لكن الأمر ليس كذلك فهو داء كأيّ داء ولا بد أن يكون له دواء؛ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ بَرَأَ بإذْنِ الله”. فالله هو الشافي وهو أرحم بنا من أمّهاتنا وأنّ هذا الألم الذي يَعْصِفُ بروحِ المرء هو رفعٌ لدرجاته، فهل سيرى الله منك همًّا وحزنًا لأنك خائف على دينك وخائف أن تتّصف بالكفر، ثم يعاقبك؟!هل هذا ظنك  الجميل، بالرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء؟.

فعليكَ أن تُدرِك وقلبُك كلّه يقين أنّ  هناك حكمة مما تمرّ به، سواءً علمتَها أم لا فثق بربّك الحكيم.

أما دواء هذا الداء؛ علاجُ الوسواس القهري يكون من جهتين: أحدهما شرعي وسلوكي والآخر طبيّ بأن يستشير طبيبًا نفسيًّا ثقة يُتابع حالته فيكون سببًا في شفائه بإذن اللّٰه، ولعلّ من الأفضل للمريض أن يشرَع بنوعي العلاج معًا فهو يزور الطّبيب النفسي وفي نفس الوقت يتّبع العلاج الشرعي والسّلوكي.

أما نحن سيكون حديثنا عن العلاج الشرعي والسلوكي بإذن الله.

*العلاج الشرعي السلوكي

١–أن يعلم المُصاب بهذا الداء أنه ليس وحده، فهناك الكثير ممن تأتيهم هذه الوساوس؛ من العلماء والصالحين بل وأعظم من ذلك، فقد جاءت من قبلهم للجيل الفريد، جيل الصّحابة رضوان الله عليهم جميعًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: “وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟” قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: “ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ”. رواه مسلم

٢-  أن يعلم أنّ هذا  الوسواس إنما هو من كيد الشيطان، ولقد قال الله تعالى: “إنَّ كيدَ الشّيطان كان ضعيفًا”. وفي حديث بن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود أنه لما شكى إليه رجل ذلك قال: “الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة”. أي أنّ كيده لم يكن إلا حديث نفس لم يتجاوزه ليتمكَّن من القلب.وقد قال العز بن عبد السلام:”دواء الوسوسة أن يعتقد أنّ ذلك خاطرٌ شيطانيّ وأن  إبليس هو الذي أورده عليه، وأن يقاتله، فإن له ثواب المجاهد، لأنه يحارب عدوّ الله، فإذا استشعر ذلك فرّ منه.

٣-  الإستعاذة باللّٰه من الشيطان الرجيم إذا راودته هذه الوساوس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: “يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِالله وَلِيَنْتَهِ”. ومن الاستفادات المهمة جدًا من هذا الحديث قوله “صلى الله عليه وسلم” : {ولينته}، فيجب ألا يسترسل المرء مع الوسوسة، بل يعرِض عنها بمعنى أنه لا يرد عليها في قرارة نفسه، بل يستعيذ بالله ويصرف نفسَه بشيءٍ آخر ولا يجيب عليها أصلًا، فحين يردّد الصوت الذي بداخله: من خلق الله؟ أو غيره كالسؤال عن الكيفيّة في حق الله أو غيرهما، فلا يرد عليه، بل عليه أن ينصرف عنه قائلًا مستجيرًا بربّه: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”.

٤-أن يعلم  يقينًا أننا المسلمون غير محاسيبن على الوسوسة؛ وأنّ هذه الوسوسة لا تُخْرِج المرء من دائرة الإيمان ولا الإسلام، فقد جاء في الحديث:(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ) رواه البخاري ومسلم.

٥– أن يُذكِّر نفسه دائمًا أننا في دار بلاء واختبار وهل هناك أعظم من أن يُبتلى المرء في دينه؟. فالمؤمن مبتلًى ليتبين صدق توحيده وإيمانه بالله عز وجل فقد قال الله تعالى: “{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}”[ العنكبوت ١ -٣].

فاعلم أنَّ هذا اختبار صدقك مع الله  فإن أردت الفلاح فاصبر واحتسب والله سبحانه حاشاه حاشاه أن يُضيعك.

٦– أحيانًا قد تقع في فخّ عزل نفسك عن الآخرين وترك الطاعات عندما يوسوس لك الشّيطان أنّكَ لا تصلح لهذه العبادة وأنكَ عارٌ على المجتمع  فتستسلم وتيأس من نفسك، فهذا نحذّرك منه أشد الحذر لأنك بذلك سلكت طريق الشيطان الذي سيؤدي حتمًا إلى هلاكك وضلالك، فإياك إيّاك أن تُوقِف طاعةً لك كنت تعملها قبل الوسوسة.استمرّ في قراءة وردك من القرآن، ولا تترك صلاة الفريضة، بل وحاول المحافظة على النوافل إن لم تكن من أصحابها، لا تنعزل بل خالط الناس وادعُهم إلى الله متوسّلًا إلى الله عز وجل أن يرفع عنكَ ما أنت فيه.

 أعلمُ جيدًا أن هذا الأمر سيكون صعبًا عليك يا أخي لكن ٱصبر وصابر وسيأتيك الفرج بإذن الله.

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

 “والوسواس يعرض لكل مَن توجَّه إلى الله، فينبغي للعبد أن يَثبُت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذّكر والصلاة، ولا يضجر؛ لأنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيدُ الشيطان وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله بقلبه، جاء الوسواس من أمورٍ أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله أراد قطْعه عليه.

٧– الدّعاء الدعاء، تذكّر أن  الله يحب العبد اللحوح، الذي لا يترك بابه أبدًا ولا يُسِيء الظّنَّ بربّه، ولا يقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي! بل يقول دعوت دعوت وسأستمرّ في الدعاء فأنا أُحسن ظني بربي.

أحيانا تراودك خواطر مثل:”! أنا أدعو منذ سنين ولا زلت أسمع الصوت!”، عندها فتّش في نفسك عن مانع من موانع الإجابة، فإن لم تجد فاعلم أن هذا رفعٌ لدرجاتك وأن الله جابرُك فلا تيأس.

٨- القرآن، اقرأ القرآن بنية الاستشفاء، لا تترك المعوذات بعد كلّ صلاة، ولا تغفل عن أذكار الصّباح والمساء، واعلم أنَّ ذكر الله حصنٌ منيع لا يستطيع الشيطان تجاوزه، وخير الذكر قراءة القرآن.

٩–لا تترك نفسك للفراغ وبالتّالي تراودك هذه الوسواس، بل اشغل نفسك بما يفيدك كممارسة الرّياضة، وطلب العلم.

١٠– تأمّل نصيحة أبي سليمان الدارني للسيد الجليل أحمد بن أبي الحواري عندما اشتكى له الوسواس حيث قال له كلامًا رائعًا يستحقّ أن تعمل به: “إذا أردت أن ينقطع عنك، فأي وقت أحسست به فافرح، فإنك إذا فرحت به انقطع عنك، لأنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن اغتممت به زادك”. وهذا ممّا يؤيِّد ما قاله بعض الأئمة: إن الوسواس إنما يبتلى به من كمُل إيمانه، فإن اللصَّ لا يقصد بيتًا خرِبًا.

١١– لا تنس أن تُقَيِّمَ  نفسك وتُراقب تصرفك مع الوساوس كل فترة، حلل تصرفك في كل مرة هاجمك فيها هذا الوسواس فتخرج بذلك  بالنتائج والأسلحة. واعلم أن هذا الأمر أنفع لطرده وأقوى للسّيطرة عليه.

وفي الختام:

 أقول لك أنّ هذا الوسواس لن ينتهي بزرٍ تضغط عليه بل يحتاج إلى مجاهدةٍ وصبر فلا تيأس واصبر وصابر.

أسأل اللّٰه أن يشفي مرضى المسلمين، وأن يكشف البلاء عن المبتلين، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همنا، وذهاب أحزاننا. 

الكاتب: رشا عطا - آلاء صباغ - حورية حسن .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى