بسم الله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أيّنا أحسن عملًا، والصلاة والسلام على المُرسَل رحمةً للعالمين، وبعد:
الموتُ وما أدراك ما الموتُ!
تلك الحقيقةُ الوجودية التي أقلقت البشرية على مختلف العصور، ولا زالت تقلقها!
الموت وما أدراك ما الموت!
ذلك القدر المحتوم على كلِّ نفسٍ مؤمنةً كانت أو كافرة.
ما الموت؟ ولِم نخافه؟ وهل ذِكر الموت يستوجب اليأس؟
أولًا: ما الموت؟
يمكن تعريف الموت بأبسط التعاريف والقول بإنَّه: هو الانتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، أو هو خروج الروح من الجسد؛ لتنتقل من دار العمل الفانية إلى دار الحساب والمجازاة الأبدية، والموت وفق التصور الإسلامي ذو رؤية شمولية تكاملية تقوم على مرتكزاتٍ يمكن إجمالها في النقاط التالية:
[١]–أنَّ حقيقته الروحية مُلحَقةٌ بأمر الله-تعالى- ككلِّ حقائق الأمور الغيبية[١] قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا }[الإسراء:85] ، ولمَّا كان سياق السؤال عن حقيقة الروح التي هي من الحقائق الغيبية أُلجئ الجواب عنها إلى علم الله- تعالى-.
[٢]– أنَّ الموت مخلوق من مخلوقاته -عز وجل-و غاية وجوده- كذلك الحياة- هو الابتلاء والاختبار، كما قال -تعالى-: {الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:٢].
[٣]– أنَّ الموت هو بوابة العبور من هذه الحياة الدنيوية إلى الحياة البرزخية مع استصحاب الأعمال الدنيوية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون:٩-١١].
[٤]-أنَّ الموت هو خير موجِّه ومهذِّبٍ للنفس الإنسانية؛ لِمَا في ذكره من دفْع النفس إلى الاستزادة من كلِّ خير، والكفِّ عن كل شر، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا ذكر هاذم اللذات»[٢].
[٥]–أنَّ الموت هو القدر المحتوم لكل نفس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران:١٨٥]، وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:٢٦].
ثانيًا: لِم نخافه؟
من منّا لا يخافه!
نعم كلنا نخافه خوفًا طبيعيًا، لكن هل الحل كراهة ذكره؟ أو التشبث بأي معتقداتٍ أخرى للهروب من حقيقته وتهوينها على النفس؟
ولتقريب الفكرة لنضرب مثالًا في أمورنا الدنيوية:
لو أنَّ لدى مجموعةٍ من الطلاب اختبارٌ نهائي فهل خوفهم جميعًا منه بدرجاتٍ متفاوتة كلًا بحسب استعداده له ومعرفته بتفاصيله-إجمالًا- طبيعيًا أم لا؟!
نعم من الطبيعي جدًا أن يشعر الجميع بنوع من الخوف تختلف درجته بين من اجتهد ومن فرَّط، وقد يكون لدى بعض المجتهدين أيضًا نوعٌ من الخوف المَرَضِي، وقد يكون لدى -بعض- من فرّط وأهمل نوع من اللامبالاة المرَضية، لكنَّ الشاهدَ من الأمر الكلُّ في الوضع الطبيعي سيخاف!
وكذلك في واقعنا، الحل ليس في الهروب وكراهة الحديث عن الموت، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجمعة:٨]،بل الحل أن تُحلِّق في هذه الأرض كطائرٍ رأسه العمل وجناحيه الخوف وحسن الرجاء وأن لا تغلِّب جانبًا على جانب حتى لا تهوي من بعد ارتفاعك إلى الأرض!
ثم إنَّنا ابتُلينا حقيقة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن-نسأل الله السلامة-بأقوامٍ يكرهون الموت ويفرون من ذكره وممن يذكِّرهم به-بل ويتهمونه-ليركنوا إلى هذا الحطام الفاني متشبثين به!
فما بالهم يكرهون الموت ويفرون من ذكره وهو خير معين لهم على هذه الحياة بأفراحها وأتراحها؟!
الإجابة: ما قاله الرجل الحكيم عندما سأله سليمان بن عبدالملك فقال له: «يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب»[٣].
ثالثًا: هل ذكر الموت يستوجب اليأس؟
مع استصحاب ما ذُكر سابقًا يتبين عكس ذلك بل إنَّ للموت آثارًا تستوجب الأمل ومنها على سبيل الذكر لا الحصر:
[١]–تثبيت الفؤاد عند المحن والابتلاءات وفقد الأحبة والحث على الصبر والاحتساب، ومعرفة حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها والأمل بدار الخلود-نسأله من فضله العظيم- التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[٢]– الرضا وعدم الجزع على ما فات من أمور الدنيا، كما قال عمر – رضي الله عنه -: «من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»[٤].
[٣]–المسارعة في الأعمال الصالحة، والإكثار من الغرس وإن لم تُجنَ الثمار في هذه الدار، حتى ولو كنت في أصعب الظروف، عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»[٥].
[٤]–حفظ الوقت والجهد والترفع عن سفاسف الأمور الدنيوية؛ لأنك تدرك الغاية التي من أجلها خُلقت، وهي من أَجلِّ الغايات وأسماها، فعن ثابت-رحمه الله-قال: «كان يقال: ما أكثر أحد ذكر الموت إلا رئي ذلك في عمله»[٦].
[٥]–مسامحة الخلق والصفح الجميل وهذا من ثمراته القلب السليم والراحة النفسية.
[٦]–الوقاية-بإذنه تعالى-من الاضطرابات والأمراض النفسية الناشئة من عوامل عدم فهم طبيعة الحياة الدنيوية وأنها دارٌ مصيرها إلى الفناء.
[٧]–استشعار زوال هذه الدنيا ومن فيها، واستشعار العدل الإلهي يريح النفس ويسكن روعها مما تراه من الظلم والطغيان وتجبُّر بعض الخلق لا سيما في زمننا هذا-نسأله سبحانه السلامة والعافية-والأمل بأنَّ العاقبة للمتقين وأنَّ هذه الدار إلى الفناء والزوال لا محالة، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم:٤٢].
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم: ٣١].
[٨]–الاستمتاع في الحياة الاستمتاع المحمود بنيةٍ صالحةٍ طيبة، وحسن معاملة الخلق؛ لأنه لا تغيب عن ذهنك حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وفراق أهلها.
[٩]–إعادة ضبط بوصلة القلب وإحيائه كلما فُتِن بهذه الدار وزخرفها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «أكثروا ذكر هاذم اللذات»[٧]، وقيل للربيع بن أبي راشد: ألا تجلس فتحدث، قال: «إنَّ ذِكْر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد علي قلبي»[٨].
[١٠]–وآخرها وأهمها هجرُ اليأس والتزودُ والاستعداد للرحيل، والأمل والطمع فيما عنده سبحانه، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر-رضي الله عنهما- يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»[٩]، وعن جابر-رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي ﷺ قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن»[١٠].
ختامًا:
إنَّ اليأس طريقٌ لمن أحبَّ هذه الدنيا وزينتها وبذل كلَّ ما بذل ابتغاء مرضاتها ومرضات نفسه وأهلها، فيلهو مع اللاهين ويغفُل عن الاستعداد للدار الآخرة، حتى إذا جاء أَجَلُه -الذي كان يكرهه ويفر منه- يئِسَ وقنط وندم، وإنَّ الأمل وحسن العمل والاستعداد للرحيل طريقٌ موصِل لما أحبَّ الله -عز وجل- فالإيمان به والاستلام له وبذل كل ما يجلب رضاه -تعالى- مع صدق الإخلاص وحسن المتابعة للنبي ﷺ يبعث الرضا في نفس العبد والطمأنينة، حتى إذا جاء أَجَله تذكَّر ما مضى من حياته واستشعر أنَّ ربه -سبحانه- كان به حفيًا هداه واصطفاه وثبَّت فؤاده وأعانه على هذه الدار وأهلها، فيحْسِن الظنَّ باللطيف الخبير سبحانه وتخرج روحه وهو في قمّة الاشتياق للقاء ربه-تعالى-.
_______________________________________________
الهوامش:
(١) جمالية الدين معارج القلب إلى حياة الروح، د.فريد الانصاري رحمه الله، ص:٧٥.
(٢) أخرجه النسائي(٤/٤) رقم الحديث(١٨٤٢)، [حكم الألباني] حسن صحيح.
(٣) مسند الإمام الدارمي(١/ ٢٣٤).
(٤) أدب الدين والدنيا ص:٢٥٩
(٥) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد، رقم الصفحة(١٦٨) رقم الحديث(٤٧٩).
(٦) مصنف ابن أبي شيبة(٧/٢٤٠) رقم الأثر(٣٥٦٧٦).
(٧) أخرجه النسائي(٤/٤) رقم الحديث(١٨٢٤)، [حكم الألباني] حسن صحيح.
(٨) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم(١/٩٠) رقم الأثر(٢٦٦).
(٩) أخرجهما الإمام البخاري (٨/٨٩) رقم(٦٤١٦).
(١٠) أخرجه مسلم(٤/٢٢٠٥) رقم الحديث(٢٨٧٧).
الكاتب: أديبة بنت خلف المطيري
التدقيق اللغوي: أمجاد بنت عبدالرحمن المسعود