لا عجب أن يكون نظام الميراث الإسلامي أيقونة في كماله ودقة تفاصيله وتمام عدله، إذ هو جزء أصيل من منظومة تشريعية ربانية فريدة في وسطيتها واستيعابها لكل البشرية مع اختلاف الأزمان والأحوال.
ومن ثَمَّ كان حظه من سهام الأعداء والحاقدين على التشريع الإسلامي كبيراً، فتنازعته الأطراف نقداً وهجوماً، كل بحسب ما ظهر من عوار قوانينهم و فكرهم، ولذلك في أبسط مقارنة فإن كفة ميزان الميراث الإسلامي تبقى غالبة ومهيمنة بأصولها وأحكامها على غيرها من التشريعات.
ولم يكن هذا التفضيل جزافا أو تحيزا، بل هو تميز حقيقي شهد به من كان منصفا من غير المسلمين، فهذا (فون كريمر) يقول: إن قانون الميراث الإسلامي نوع أصيل ممتاز من القانون الإسلامي.
كما أشاد مؤلفا كتاب (الاقتصاد الهندي) بتفوق التشريع الإسلامي على القانون الهندي وإنصافه لأصحاب الأملاك في الحياة وبعد الممات [1].
ونحن هنا سنفصل طرفا من المقاصد الشرعية والحكم العظيمة التى تضمنها هذا النظام التشريعي الفذ وتميز به عما سواه من التشريعات الوضعية أو المحرفة.
فنذكر منها:
- أصالته وثبات أحكامه:
إن أهم ما يميز التشريع الإسلامي في الميراث ويثبت قدسية مصدره هو كونه أصيلا غير تابع ولا مقتبس من أمم سابقة ولا غيره من الأديان والشرائع، بل خالف كثيرا من أصولهم وأحكامهم بطريقة واضحة ومتميزة.
فقد كانت الأمم قبل الإسلام تتخبط في تقرير أنصبة الورثة وأحقية الأقارب بدرجاتهم، فمنهم من ورث القرابة بالنسب وأهمل سبب الزوجية مثل الرومان، ومنهم من جعل السن والبكورية سببا لأحقية التوريث دون سواه كاليهود، ومنهم من جعل القوة والقدرة على حمل السلاح فيصلا للتوريث أو الحجب.
فجاء الإسلام بنظامه الفذ، فوضع الأنصبة الواضحة وقرر الحقوق لأصحابها بدقة عالية وفروض صريحة لا تتبدل ولاتتغير، وأعطى من حرم من الميراث من المستحقين، فكان تشريعا فريدا لم يسبق إليه أحد، بل أصبح ملهما لغيره من التشريعات اللاحقة، ولا يخفى مدى تأثر الأنظمة الحديثة به كالقانون الفرنسي مثلا.
- محركه العقدي وباعثه الإيماني:
لاشيء يفوق عملا نبع من عقيدة راسخة وإيمان عميق، وهذا ما حرص التشريع الإسلامي على إقامته في نفوس المؤمنين قبل تكليفهم بالعمل نفسه، فتتقبله النفوس راضية مطمئنة متشوقة لثوابه وقبوله عند الله.
لذلك تولى سبحانه التشريع في مسألة تقسيم الميراث وحده ولم يتركها لأهواء البشر وعقولهم القاصرة، وليستقر في النفوس الإذعان بأن الملك كله لله تعالى؛ يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، ثم فرضه سبحانه فرضا على العباد وأمرهم به وجوبا فسماه سبحانه (نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)[2] يعذب به من جحده، ويتعبد المؤمن بإقامته وتنفيذه على مراد الله.
فلم يعد الباعث على حماية هذا النظام التشريعي مجرد قانون أو حق دولة أو أفراد فقط، بل زرع الإسلام مراقبا ذاتيا لدى كل مؤمن يراقب به إقامة العدل ويخاف به من اطلاع علام الغيوب -جل وعلا-.
- وسطيته وعدله:
امتاز نظام الميراث الإسلامي بما امتاز به الإسلام في مجمله وتفاصيله، فكان وسطا بين طرفي الانحراف، وعدلا في تقسيم الحقوق، فلم يحرم الورثة كالشيوعية، ولا ضحم الثروات كالرأسمالية، ولاحرم النساء من الميراث كالجاهليين واليهود، وجعل الزوجية سببا للميراث.
ثم قسم الميراث بمعايير عادلة دون محاباة لطرف دون آخر إلا لحاجة شرعية معتبرة أو مسؤولية زائدة تحتم التمييز.
فهذا ميراث المرأة مثلا أنموذج باهر ودليل دامغ على وسطية التشريع الإسلامي وعدله، فقد كانت الأمم السابقة بكل أطيافها ودياناتها لا تقيم للنساء وزنا وتعدها من سقط المتاع، فلا ترث ولا يحق لها التملك، بل قد يتملكها الورثة ويرثونها ضمن الأموال والأملاك، فهي ليست إنسانا مؤهلا للملكية -في نظرهم- إن عدوها إنسانا أصلا!
أما في الأنظمة الحديثة ومع علو صوت النسوية وغلبتها في كثير من الأوساط فقد نصت قوانينهم غالبا على محاباة المرأة دون اهتمام بالاعتبارات الضرورية الأخرى لبناء مجتمع سوي، واعتبروا مجرد المساواة بين الجنسين قيمة عليا دون العدل، فأفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح، وتحملت المرأة وفقا لهذا التوزيع أحمالا لا تناسبها ولا تطيقها.
فكانت الشريعة الإسلامية وسطا وعدلا بين الأطراف، فأعادت أحقية المرأة للميراث فرضا، وحرجت حقها وحفظته، ثم جعلت ميراثها مناسبا لوظيفتها المجتمعية دون زيادة أو نقصان، ودون ظلم أو محاباة.
- تعزيز التكافل المجتمعي وضمان حق الضعفاء:
يعد تشريع الميراث مثالا جليا لفلسفة الإسلام بإقامة العدل والتكافل بين الناس، فلم ينشغل بحق عن حق، ولا غفل عن جانب من جوانب الخير.
فكان عدله في أقارب الميت أن جعل درجة القرابة سببا لاستحقاق الميراث بغض النظر عن قوة الوارث وضعفه ذكرا كان أو أنثى، وجعل للنساء الوارثات بلا عصبة حقا مفروضا حتى لا يتلاعب بحقهن الطامعون لضعفهن.
كما شدد في وعيد من يظلم الضعيفين (اليتامى الصغار) و(النساء) فقال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[3].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أحرّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)[4].
أما بالنسبة لمراعاة مصلحة المجتمع في الميراث فقد وفر لجانبه الكثير من الحكم والمصالح منها:
- قيام توزيع الميراث في الإسلام على أساس تفتيت الثروات وعدم تكديسها في يد فرد أو اثنان، حرصا على أن لا تصبح ثروات الأمة مجتمعة بيد أفراد محددين يتحكمون بمقدراتها ويديرونها كيفما تملي عليهم أهواؤهم قال تعالى: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ)[5].
- ترك فسحة لصاحب المال بالوصية بالثلث ولا يخفى ما فيها من مصالح،كالمساهمة في المشاريع الخيرية ونشر العلم وإعانة الفقراء والمساكين وأداء الحقوق، فالإنسان مجبول على حب المال وقد يجد شحا في البذل في حياته، لكن نفسه تطيب بالبذل بعد موته فجاءت الوصية مراعية لحاله.
- مرونته ومناسبته لكل زمان ومكان:
تتخذ الأحكام الشرعية من علوية مصدرها ثباتا وعدلا وتبقيها في دائرة الأمان التي تقيها من التيه والضلال والجور، فالحكيم هو من شرع أحكام المواريث في قواعد ومبادئ متينة مناسبة لكل زمان ومكان وضبطت بحيث لا تحتاج استدراكا يسد نقصها كما بالقوانين الوضعية، كما أنها قواعد مضمونة النتائج على مستوى المجتمع وليست كغيرها من القوانين البشرية التي ظهر عوارها وآثارها البعيدة على المجتمعات بعد حين، وليس أدلّ على ذلك من أنها بقيت بالفعل طوال قرون الإسلام منظمة وحاسمة لكل الخلافات والإشكالات المتعلقة بالميراث.
وشتان بين من يقضي بالحق وهو علام الغيوب وبمن يقذف بمبادئ (مجهولة النتائج)!
والحمد لله أولا وأخيرا.
[1] الإعجاز التشريعي لنظام الميراث في القران الكريم ، أحمد يوسف سليمان، المؤتمر العالمي الثامن للإعجاز العلمي في القرآن و السنة، ص 125
[4] صحيح الجامع للألباني، 2447
الكاتب: هبة حمودة - ريما الغانم
المراجعة: خلود محمد
التدقيق اللغوي: إبراهيم محمد
التصميم: سمية العمودي