هذا الاعتراض من أقدم الاعتراضات التي لا يملُّ الناقدون للأديان من تكرارها، ومن أكثرها انتشارا في خطاباتهم ومحاوراتهم، فإنه لا يكاد يُذكرُ دليل الخَلق والإيجاد الذي يستدل به المؤمنون على وجود الله حتى يبادر المعترضون دون تأمّل بسؤال: من خلق الله؟!
وهو سؤالٌ تقوم حقيقتُه على أنَّ الأخذ بدليل الخلق والإيجاد يلزم منه أن يكون لله خالق وسببٌ، إذ إنَّ هذا الدليل يربط بين الوجود والخالق والسَّبب، والله موجود، فرأى الناقدون للأديان -وفقا لذلك- لزوم أن يكون له سبب وخالق وموجد!
وقد كان هذا الاعتراض بارزًا عند فلاسفة كُثُر، من أقدمهم الإنجليزي الشهير ديفيد هيوم، فقد ذكر أنه إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه[1]
وهذا برتراند رسل يقول عن نفسه: “كنت أعتقد صحة حجة المسبب الأول، إلى أن قرأت في عمر الثامنة عشرة سيرة جون استوارت مل حيث وردت الجملة التالية: (علمني والدي أنه توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟!)، هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة، إذا كان لكل شيء سبب يجب أن يكون للرب سبب أيضا“[2]
ثم كان ذاتُ السؤال حاضرا عند سبنسر، فهو يقول سياق زعمه أنّ الدين لا يُوصل للمعرفة الحقّة:
“استمع إلى هذا الناسك المتديّن، ها هو ذا يقصّ عليك علّة الكون، وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفـسّر بهذا الرأي من المشـكلة شيئًا، ولم يزد على صاحبه (أي: المنكر للخالق) سوى أن أرجـعها خطوة إلى الوراء، وكأني بك تسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟“[3]
ونتيجة لجهل عدد من الواقفين على هذا السؤال وغفلتهم عن موضع الخلل فيه، كان سببا في تشكيكهم في وجود الله، بل في وصول بعضهم للإلحاد[4].
- مجمَلُ الردِّ على الشُّبْهة:
قامت هذه الشبهة على أصول استدلالية متهافتة، وأغاليطَ عقليَّةٌ، وأهمها:
- الأصل الأول: إمكانُ التَّسلسل والدَّوْر، ومنه نشأ السَّؤال، وهما ممتنعان عقلا.
- الأصلُ الثاني: التَّسويةُ بين المختلفات، كالموجودات والحوادث، وهو تلبيس وخلط.
- الأصل الثَّالث: التناقض الداخلي في بنية الشبهة، إذ السؤال مقدَّر على فرض الإقرار والتسليم بوجود الموجود الأزلي الذي لا أول له، ثم هو يسأل عن إمكانية أن يكون للسابق سابقٌ وللأولِ أوَّلٌ!
- مفصَّل الردِّ على الشبهة:
بيان ما في هذا الاعتراض من الخلل والفساد المعرفي والاستنتاجي والبعد عن العقل يتحصَّل في ثلاثة أمور:
- الأول: الفهم الخاطئ لدليل الخلق والإيجاد، فلقد خلط المعترضون بين الوجود والحدوث، فتوهَّموا أنَّ دليل الخلق يقصد إلى إثبات علّة لكل موجود، وهو تصوّر في غاية الانحراف والبُعد، لأن دليل الخلق لا يتحدّث إلا عن الموجودات الحادثة فقط، والمقصود الأساسي منها إثبات استحالة التسلسل في العلل وضرورة انتهائها إلى موجود لا موجد له، أي إثبات احتياج الموجود الحادث إلى موجود قديم أزلي لا أولية لوجوده، ولذلك كان من مقدمات دليل الخلق الأساسية: إثبات حدوث الكون.
ولكنَّ المعترضين يغفلون عن هذا أو يتغافلون، فهم يشبهون رجلا أقام الأدلة لصديقه الغبيّ على عدم وجود سيّارة خارج البيت، فإذا بالغبيّ يسأل: من أوجد السيَّارة التي بالخارج؟!
- الثاني: الاعتقاد بأن القول بوجود موجود أزليّ هو مجرد اختيار فلسفي أو ضرب من الهوى، وهو خطأ شنيع، فإنه ضرورة عقلية يتعذّر قبول غيرها؛ لأن الضرورة الحسيّة تثبت وجود موجودات حادثة وأن وجودها لابدّ له من سبب، ولمّا كان الدور القبلي والتسلسل في الفاعلين ممتنعا، كان وجود الموجود الأزلي حقيقة يضطر العقل الإنساني إلى التسليم بها اضطرارا لا يجد عنه محيصا.
يقول مصطفى صبري: “فالعاقل مضطر إلى الاعتراف بموجود واحد بدون علة، كاضطراره إلى الاعتراف بعدم وجود ما عداه بدونها، فتستند عقيدة المؤمن إلى هذين الاعترافين المختلفين: إيجابا وسلبا، واللذَين لا تتم فلسفة الكون ولا تستقيم إلا بهما، أما التوقف دونهما: بتجويز وجود العالم بذاته من غير حاجة إلى من أوجده رغم كونه عرضة للتغير…أو بتجويز وجود العالم مستندا إلى موجد حادث مثله يتقدمه في الوجود، ويتقدم ذلك الموجد موجد حادث آخر، وهلم جرا إلى أن يلزم التسلسل في العلل الموجدة الحادثة المتقدم بعضها على بعض = فمحال، يخالف كل واحد من هذين الاحتمالين لأحد المبادئ المركوزة في فطرة الذهن البشري“[5]
- الثالث: التناقض المنهجي مع طبيعة ما يتعلّق به الجدل؛ فإن دليل الخلق يُثبت أن هناك موجودا أزليّا لا خالق له، ومن ثَمّ فلا يصحّ الاعتراض على تلك النتيجة بسؤال: من خلق الله؟! إذ تكون حقيقته:
“إذا كان الله لا أول لوجوده ولا خالق له وهو خالق كل شيء في الكون فمن الذي خلقه؟!“
فهو يشبه في البطلان سؤال: (ما الذي يسبق الشيء الذي لا شيء قبله؟!) وسؤال: (إذا كان الذّكَر من الحيوانات لا يلد، فما الذي أنجبه ذلك الذّكَر؟!)
وهي أسئلة باطلة؛ لأنها متضمنة للتناقض الداخلي في بنيتها، حيث يتضمن كل سؤال منها الإقرار بالشيء ثم السؤال عن إمكانية نقيضه، والمقارنات بينها تثبت للمتأمل أنها تؤدي إلى إبطال المعرفة الإنسانية، وأن الالتزام بها يؤدي إلى الاضطراب في بنية العقل الإنساني ومسالك الاستدلال المنهجي فيه.
[1] انظر: قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود، ص244.
[2] لماذا لست مسيحيا؟ مجلة أنا أفكر، (6/21).
[3] قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود، ص477.
[4] انظر: رحلتي من الشك إلى اليقين، ص،7-8.
[5] موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، مصطفى صبري (2/117).
ملخص من كتاب: ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، للدكتور سلطان العميري
تنقيح/ زياد بن أسامة خياط.