إن المؤمنين مع إيمانهم بثبوت الكمال المطلق لله، فإنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأنه يتعذر عليهم الإحاطة بما ثبت لخالقهم من كمال وجلال.
وإيمانهم بهذه الحقيقة ليس قضية عاطفية أو تسليمية مجردة، وإنما هو قائم على أصول وجودية وعقلية يقينية، توجب عليهم الإقرار بالعجز عن العلم بكمال الله وقدرته، ومن تلك الأصول:
- الأول: أن الناس لم يدركوا ذات الله تعالى، ولم يعرفوا حقيقتها، فكيف يمكنهم أن يعرفوا ما يتعلق بها من الكمال والجلال؟! فمن المعلوم في العقل أن العلم بالصفات تابع للعلم بالذات، فإذا كنا لا نعلم حقيقة ذات الله، فإننا بالضرورة لا نستطيع أن نعلم حقيقة صفات الله وكنهها.
- الثاني: أن الناس لم يستطيعوا إدراك تفاصيل الكون، وعجزوا عن الإحاطة بمكوناته المتسعة، وقد تواترت مقالات العلماء التجريبيين وغيرهم في الإقرار بأن الكون ما زال مليئا بالأسرار والألغاز، وأن الإنسان مع تطوره الكبير لم يدرك إلا قدرا ضئيلا جدا منه. فإذا عجز الناس عن الإحاطة بالكون الذي هو فعل من أفعال الله، فكيف يمكنهم أن يحيطوا علما بالخالق وبكماله وجلاله؟! فعجزهم عن البلوغ إلى ذلك أشد وأبعد وأظهر في بدائه العقول.
- الثالث: أن الشخص لا يستطيع أن يحيط بكل العلوم الإنسانية، ولا يقدر على إدراكها، وإنما يعتمد في كثير من تفاصيل حياته على التسليم لأقوال الخبراء والعلماء، ويأخذ بذلك وهو مطمئن النفس ساكـن القلب، ويعد العقلاء سلوكـه هذا متـوافقا مع العـقل، ومتسقا مع الفطرة والواقع الإنساني.
ولو أن شخصا قصد إلى الخروج عن هذا النهج، وقرر أن لا يأخذ بشيء في حياته إلا إذا علم بنفسه تفاصيل كل ما يتعلق به، لكان خارجا عن نهج العقلاء، داخلا في مسالك الجنون والسفسطة.
فإذا كان هذا هو حال المخلوق مع علم المخلوقين أمثاله، فكيف يمكن أن يكون حاله مع علم الله وكماله وحكمته؟! فإنه لا محالة سيكون أكثر عجزا عن إدراك تفاصيله، وأبعد عن الإحاطة بحكمته، وسيكون تطلبه لذلك أكثر جنونا، وأعمق في أودية السفسطة السحيقة.
إن مثل من يعترض على علم الله وحكمته في الكون ويتطلب العلم بها كمثل رجل قرر أن لا يسلم بأخذ شيء في حياته إلا بعد أن يعلم بكل تفاصيله المتعلقة به، فمرض، فلما ذهب به أبناؤه إلى الطبيب قال له: لن آخذ بأي وصفة طبية تذكرها لي حتى أعلم بكل التفاصيل التي انطلقت منها في وصفك لها، فذكر له الطبيب أن طلبه هذا غير مقبول في العقل ومناف لطبيعة العلم الإنساني الخاضع للتخصصات، فرفض الانصياع لقوله وخرج من عنده، فلما قرب أبناؤه له السيارة، رفض أن يركبها حتى يعلم بكل التفاصيل التي شكلت على وفقها، فذكر له أبناؤه أن هذا غير معقول؛ لكون ذلك يتطلب وقتا وجهدا لا يمكن توفره في ساعتهم، فرفض قبول تبريرهم وذهب إلى بيته ماشيا، فلما أراد الدخول توقف، وقال: لا يمكن أن أدخل البيت حتى أعلم بكل التفاصيل التي بني على وفقها، فذكر لها أبناؤه أن ذلك متعذر في حالتهم التي هم عليها، فرفض قبول قولهم وجلس تحت الشجرة، فلما قدم له أبناؤه الطعام والشراب، رفض أن يأكل منه شيئا حتى يعلم بكل التفاصيل المتعلقة بذلك الطعام والشراب، فذكر له أبناؤه أن تحصيل ذلك متعذر في حالتهم، فرفض قبول تبريرهم وبقي جائعا!
لا جرم أن هذا الرجل خارج عن مسالك العقلاء، وغارق في متاهات الجنون والغباء، ولن تكون نهاية حياته إلا إلى الفساد والفناء.
ومقتضى هذا التقرير أنه لا يصح في العقل ولا في المنطق أن يعترض الإنسان على أفعال الله وتدبيره للكون، ولا يحق له أن يجعل نفسه مضادا لله تعالى، وإنما غاية ما يمكن له فعله أن يتساءل عن أفعال الله، فإن عجز عن فهمها أو إدراك حكمتها فإنه يجب عليه التسليم والإذعان لخالقه سبحانه.
وقد تفنن علماء الإسلام في مناقشة هذه القضية وتجليتها للعقل، ومن أولئك: ابن القيم، حيث يقول: “لعلك أن تقول: ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحاري والقفار والجبال التي لا أنيس بها ولا ساكن، وتظن أنه فضلة لا حاجة إليه ولا فائدة في خلقه؟!
وهذا مقدار عقلك ونهاية علمك، فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية، من طعم وحش وطير ودواب، مساكنها حيث لا تراها، تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب، تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي، كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه”.
الكاتب: مستفادة من كتاب ظاهرة نقد الدين
القراءة الصوتية: محمد النتشة
التصميم: سمية العمودي