علاقة العلوم التجريبيَّة بالخبر:
وأمَّا مِنَ النَّاحية العِلميَّة فإنَّ الكثيرين يدَّعون اليَوْم مع عَصْر طُغْيَان العلْمويَّة أنَّه لا مجال إلى الاعتماد على الخبر أو غيره من مصادر المعرفة في حضور العِلم التَّجريبيّ الذي اكتسح وتصدَّر الجانب المعرفيّ عند كثير مِنَ النَّاس…
لكنَّنا لوْ دقَّقْنا النَّظر قليلًا لعلِمنا أنَّ العِلم التَّجريبيّ لا معنى له دون خبر بلْ سيبْقَى في حَيِّزٍ ضَيِّق، وها نحن نرى أنصار النَّزعة العلمويّة وهم يرفعون بعض الشِّعارات الرَّنَّانة مثل “أنا أصدِّق العِلم”…
غير مُدركين ولا مُستُوْعِبِين لمفهومها أو تطبيقاتهم لها في أرض الواقع، فنقول لهم موضِّحِين: أنتم في الحقيقة لمْ تُصدِّقوا العِلم مباشرةً وإنَّما صدَّقتم الخبر الذي أَوْصل لكم العِلم، ودون ذلك الخبر لنْ يَصِلَكُم أيُّ عِلم أو مكتَشَف تجريبيّ، إلاَّ في حالة ما إذا كان هذا الشَّخص عالمًا مُكتشِفًا وقتها؛ حُقَّ له أنْ يرفع هذا الشِّعار “أنا أصدِّق العلم”، لكنْ هذا أيضًا يطرأ عليه إشكالٌ آخر وهو أنَّه سيَحْصِر العِلم في اكتشافاته هو بنفسه ونحن نعلم أنَّ العالِمَ قد يمُرُّ عليه السَّنوات الطِّوال ولا يكتشف أيَّ شَيْء جديد وإنَّما يتبادل الخبرات والاكتشافات مع غيره مِنَ العُلَماء فيتكاملون ويأخذون بأخبار بعضهم لبعض في ما استحدثوه مِنْ مُكتَشَفات أوْ نَظريَّات واستنتاجات…
وعلى كلِّ حال، سواء كان هذا الشَّخص الذي يحصر تصديقه في العلم التَّجريبيّ عالمًا أمْ لا؛ فإنَّه لا يَستَنْكِف عَنْ قَبول الخبر حتَّى في الاكتشافات العِلميَّة، وهذا ما تفعله الوكالات الكبرى في العالَمِ كـ”وكالة ناسا” أو المجلاَّت المتخصِّصة في إصدار الاكتشافات العِلميَّة ونَشْرها كـ”مجلة الطَّبيعة” و”مجلة العلوم”… فكَوْن هذه المصادر العلميَّة تنشر الاكتشافات المختلفة هو في حدِّ ذاته ما قلنا أنَّه يُسمَّى إِخبارًا، ونحن حين قراءتها أو متابعتها في ما نشرته نصدِّق خبرها بوقوع اكتشاف كذا أو كذا مِنَ المكتشفات أو الاختراعات الحديثة…
فإنكار الخبر كمصدر للمعرفة يعني إنكار صِدقيَّة هذه المكتشفات إلّا إنْ قام الشَّخص باكتشافها بنفسه، وهذا مخالف لما عليه واقع غالبيَّة النَّاس.
علاقة العلوم الإنسانيَّة بالخبر:
مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى نجد أنَّ العلوم الإنسانيَّة تَكْشِف بوُضُوح اعتمادها للخبر كمصدر معرفيٍّ بل كأحد أَهَمِّ مصادر المعرفة، وهذا يظهر جليًّا في “علم التَّاريخ” مثلًا، فهو علم قائم على الأخبار وتناقلها، ولمْ نَجِدْ أحدًا أنكر اعتباره من جنس العُلوم أوْ أنَّه لا يُحتجُّ به أوْ أنَّه لَيْسَ مُهمًّا، بلْ واقع النَّاس -مُثبِتهم لمصدريَّة الخبر ومُنكِرهم- يَحتجُّون به في كلامهم ولقاءاتهم المعرفيَّة والعِلميَّة، رغم أنَّ هذا العلم خاصَّة قائم في جانب كبير منه على الخبر المجرَّد عَنْ الحسِّ والعَقْل.
وَلَنَا في ما صَدَّر به ديُورانت (١٩٨١م) مقدّمة مَوْسُوعته التَّاريخيَّة الشَّهيرة التي جابت أصقاع المعمورة وحَضِيَت بالقَبول مَوْسُوعة “قصَّة الحضارة”، لنا فيها خير دليل على ما ذكرناه سالفًا، فقال ما نَصُّه: “أردتُ فيه أنْ أروي أكثر ما يمكن مِنَ النَّبأ في أقلّ ما يمكن مِنَ الصَّفحات، بحيث أقصّ في روايتي ما أدَّته العَبقريَّة وما أدَّاه دأب العاملين في ازدياد تُرَاث الإنسانيَّة الثَّقافيّ…” ، فاستعماله لِعبارة “أنْ أروي أكثر ما يمكن مِنَ النَّبأ” يدلُّ على أنَّ هذا الكتاب التَّاريخيّ الضَّخم تمَّ تدوينه اعتمادًا على جمع الرِّوايات الخبريَّة والأنباء المتفرِّقة حول الثَّقافات والحضارات الإنسانيَّة المختلفة والمتعاقبة.
أمَّا ابنُ خَلدون (٨٠٨هـ) فقد صَرَّح بلفظ الأخْبار في تاريخه حيث قال في المقدِّمة: “هذا وقد دوَّن النَّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأُمَم والدُّول في العالَم وسطَّروا، والذين ذهبوا بفضل الشُّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين مَنْ قبلَهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يُجاوِزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطَّبريّ وابن الكَلبيّ ومحمَّد بن عمر الواقديّ…” ، فأقرَّ كما عبَّر هو أنَّ علم التَّاريخ علمٌ خبريٌّ أصالةً يتناقلُ هذه الأخبارَ اللاَّحقون عَنْ السَّابقين جامعين بذلك موروث كلِّ قوم أدلَوْا بشهاداتهم وروَوْا أخبراهم لهؤلاء المؤرِّخين فحفظوا لهم تاريخهم وأَوْصَلُوه لِمَنْ بعدَهم مِنَ الأُمم.
علاقة علم الأنساب بالخبر:
وممَّا له علاقة وطيدةٌ بالتَّأريخ علمٌ اهتمَّ به العَرَب أكثرَ مِنْ غيرهم وهو “عِلْم الأَنْسَاب” الذي يتَطرَّق إلى البحث في نسبة كلِّ واحد إلى أصله وبيان سلفه مِنَ الأشْرَاف وشجرة النَّسب الخاصَّة به…
ثمَّ إنَّ هذا العِلم لمْ يقتصر على وجوده كمفهوم نظريٍّ مُسَطَّر في الكُتُب فقط بلْ إنَّه عِلمٌ واقعيٌّ حياتيٌّ حيث أنَّ الطِّفل إذا ولِد ثمَّ كَبُر وأراد أنْ يعرف أصله ونسبه فإنَّما يكون اعتمادُه على الخبر مِنَ النَّاس الذين يعرفون مَوْلِده وأهله وأقاربه. ولا يجد في نفسه أيَّ حرجٍ في أنْ يُصدِّق خبرهم، بلْ حتَّى مَنْ كان مجهول النَّسَب فإنَّه سيتتبَّع معارفه كيْ يُخبروه بما يعرفونه عنْ مَنْشَئه.
أمَّا ما ظهر في العصر الحاضر مِنْ تحليل الحمض النَّووي لتحديد النَّسب فيبقى قليلًا لا يقوم عليه عمل غالبيَّة النَّاس، بلْ إنَّنا لوْ طلبنا مِمَّنْ يُنكِرون مصدريَّة الخبر أنْ يُبرهنوا لنا عنْ صحَّة ما يعتقدونه حول نسبهم لما سارعوا إلى إجراء هذا التَّحليل بلْ يكتفون بالتَّصْدِيق بالخبر تصديقًا جازما لا يدع معه شكًّا في قلب صاحبه مِنْ صحَّة نِسْبَتِه إلى أبويه…
وإنْ كانوا في الغالب سَيَسْتَنْكِرون مِنْ مِثل هذا السُّؤال رغم أنَّه ليس مقصودًا به الطَّعن في نسب أحد منهم بلْ محاججة لهم بجنس حجَّتهم وإلزام لهم بما ألزموا به أنفسهم، فمَنْ كان منهم ممَّن يحصر العلم والمعرفة في الحسِّ والتَّجربة فإنَّه حسب منهجه لا بدَّ لإثبات صحَّة نسبه مِنْ أنْ يُثبته بالحسِّ والتَّجربة حصرًا دون أيِّ مصدر آخر.
ولعلَّ حاله سيكون مثل الجواب الذي وَقَعَ مِنْ أحد السَّلف حين سُئل عنْ زواج إبليس، حيث ذكر البغويّ (٥١٠هـ) في تفسيره: “رَوَى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟ قُلْتُ: إنَّ ذلك العرس مَا شَهِدْتُهُ…” .
فكذلك صاحبنا لمْ يَشْهَد زواج والدَيْه، فأنَّى له أنْ يَحكُم -حسب منطقه ومنهجه- بأنَّه ابنهُما؟…
يتبع..
https://almohaweron.co/alkhabar-masdar-maarfi4/
لقراءة المقالات السابقة من سلسلة الخبر مصدر معرفي:
الكاتب: سليم الحفيان