بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ والصّلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ أمّا بعدُ:
مِنْ أبرزِ السِّماتِ المميِّزةِ للبشَريّةِ على مَرِّ الأزمانِ والعصورِ هوَ وجودُ الدِّينِ كَمُكوِّنٍ راسخٍ فيها. وهذا المكوِّنُ ارتبطَتْ بهِ حوادِثُ التّاريخِ الكُبرى ونِقاطُهُ المِحوَريّةُ، حيثُ يقرِّرُ ابنُ خلدونَ ذلكَ قائلًا: “الدُّولُ العامّةُ الاستيلاءِ العَظيمةُ الملُكِ أصلُها الدِّينُ أمّا مِنْ نُبوَّةٍ أو دَعوةٍ حقٌّ”(تاريخُ ابنِ خلدونَ). وارتباطُ البشريّةِ بالدّينِ لم يكُن فقطْ على نِطاقِ الدُّوَلِ والممالكِ، بل كانَ أعمقَ مِن ذلكَ، فارتباطُهُ الأساسُ هوَ بالفردِ منِ حيثُ كونُهُ فردًا، وهذا الذي جعلَ لهُ تلكَ المرَكزيّةَ في المجتمعاتِ البشَريّةِ المُختلفةِ، حيثُ يقولُ المؤرِّخُ الإغريقيُّ بلوتارخ في هذا الصَّددِ: “منَ المُمكنِ أنْ نجِدَ مُدَّنا بلا أسوارٍ، ولا ملوكٍ، ولا ثروةٍ، ولا آدابٍ، ولا مسارحَ…، ولكن لم يرَ إنسانٌ قَطُّ مدينةً بِلا مَعبدٍ، ولا يمارِسُ أهلُها عبادةً”(الدين). ومعْ طُغيانِ المادّيَّةِ وبروزِ الاتّجاهاتِ العَلمانيَّةِ والإلحاديَّةِ، تَظهَرُ على السّطحِ دَعاوى تُحاوِلُ التّقليلَ مِن حجمِ الدِّينِ وإنكارِ مرجِعيَّتِهِ. هذه الدَّعاوى تَزعُمُ عدمَ الحاجَةِ إلى الدّينِ في ظِلِّ ما وصلَتْ إليهِ البشريّةُ مِنْ تقدُّمٍ مادّيٍّ، فالقوانينُ الوضعيّةُ والعقلُ الإنسانيُّ والعلومُ التَّجريبيّةُ كافِيَةٌ -في نظرِ أصحابِ تلكَ الدَّعاوى- لتحقيقِ السّعادةِ البشَريّةِ والأمنِ والسّلامِ. وهذه المَزاعِمُ -فضلًا عن إغراقِها في السّطحيّة-ِ مناقِضةٌ للواقعِ والتاريخِ، فاتِّخاذُ تلكَ البدائِلِ المَذكورةِ نتَجَ عنها آثارٌ وَخيمَةٌ في العصرِ الحديثِ-كما سنُبيِّن شيئًا مِن ذلكَ-، ومنِ أسوَأِ تلكَ الآثارِ: ضَياعُ الإنسانِ وفِقدانُهُ لبُوصَلةِ المَعنى. يقولُ أليكسيس كاريل:”الإنسانُ المُعاصِرُ الذي أَوغَلَ في العلومِ التَّجريبيَّةِ لم يَفعلْ شيئًا لفَهمِ نَفسِهِ، فبقيَ الإنسانَ: ذلكَ المجهولَ”(الإنسانُ ذلكَ المجهولُ). و يقولُ لوك فيري: ” لقد خَلَقَ غيابُ الدّين فَراغًا لا يُمكِنُ مَلؤهُ بأيّةِ آيدولوجيا تَعويضيَّةٍ، إلّا إذا كانَتْ تملِكُ نفْسَ الفضائلِ اللاهوتيَّةِ، هُنا تَكمُنُ نُقطةُ الضَّعفِ التي تواجِهُنا، فقد تَلاشى بصعودِ العَلمَنةِ وبمُساعدَةِ الفردانيّةِ، أقولُ تلاشَتِ القِيَمُ التي يُمكنُ أنْ نحسَبَها مَعنىً للحياةِ، وصِرنا نَعيشُ في عالَمٍ يستَنفِذُ فيه أُفُقُ المُستَقبَلِ حقلَ الدِّلالاتِ والقِيَم”(الإنسانُ المؤلَّهُ). فعلى العكسِ تمامًا مِن تلكَ الادّعاءاتِ، الحاجةُ إلى الدّينِ حاجةٌ عميقةٌ ومتجذِّرَةٌ في الأفرادِ والمجتمعاتِ، وتشمَلُ عِدَّةَ جوانبَ منَ الحياةِ الإنسانيَّةِ لا تُعطى بغيرِهِ، ومحاولةُ الاستغناءِ عنِ الدِّينِ هيَ على الحقيقةِ محاولَةٌ لتَغييبِ معنى الإنسانِ. ولبيانٍ أوضَحَ لذلكَ، سنعرِضُ فيما يلي مُستويين منَ الحاجةِ إلى الدّينِ وهما: الحاجةُ الفرديّةُ، والحاجَةُ المُجتمعيَّةُ.
- الحاجةُ الفرديّةُ (فِطريًّا وعقليًّا ونَفسِيًّا وشرعيًا)
حاجةُ الإنسانِ للدينِ حاجةٌ فِطريّةٌ أصِيلةٌ، يستشعِرُها في نفسِهِ عندَ استحضارِهِ لضَعفِهِ وقِلّةِ حيلَتِهِ.يستشعرُها عندَ احتياجِهِ إلى قُوّةٍ عُليَا لها الحُكْمُ المُطلَقُ والقُدرةُ المطْلَقَةُ. يستشعرُها عندَ الشّدائدِ والمُلِمَّاتِ، عندَ انقطاعِ السُّبُلِ، ونفادِ الحُلولِ. يستشعرُها عندما ينقَدِحُ في نفْسهِ ذلكَ الالتجاءُ للسّماءِ طلبًا للعَونِ والغَوْثِ، بعدَ استِعظامِ كُرَبِ الأرضِ. يستشعرُها في أوقاتِ صفاءِ ذهنِهِ، عند رؤيةِ آياتِ اللهِ في كونِهِ أو عندَ جُلوسِهِ صادقًا معْ نفسِهِ، باحثًا عن أجوِبَةٍ لأسئلتِهِ الوُجوديَّةِ، تَشفي غليلَهُ في بحثِهِ عنِ المعنى. يستشعرُها عندَ تفكُّرِهِ في حقيقةِ الأخلاقِ، وانتِمائِها إلى عالَمٍ غيرِ العالَمِ المادّيِّ القاسِي الذي يُحيطُ به. يستشعرُها عندَ النّظَرِ في غرائِزِ الأُمومةِ والبقاءِ والحُبِّ والأكلِ والشُّربِ، التي تنصَلِحُ بها حياتُهُ وحياةُ الكائناتِ حولَهُ. يستشعرهُا عندَ إدراكِهِ لحُريّةِ إرادَتِهِ، ومسؤوليَّتِهِ عن أفعالِهِ، التي تُرَقّيهِ عن حَضيضِ الحيَوانيّةِ والعبَثيّةِ.
وهذهِ الحاجةُ الفِطريّةُ هيَ التي جعَلَتْ للدّينِ تلكَ الـمَكانةَ في تاريخِ البشَرِ. يقولُ محمد عبدُ الله درّاز: “الفِكرةُ الدّينيّةُ تُعَبِّرُ عن حاجاتِ النّفسِ الإنسانيّةِ في مُختلِفِ مَلَكاتِها ومظاهِرِها، حتى إنّهُ كما صحَّ أن يُعرفَ الإنسانُ بأنهُ حيوانٌ مفكِّرٌ أو أنّهُ حيوانٌ مدَنيٌّ بطَبعِهِ، يَسوغُ لنا كذلكَ أن نُعرّفَهُ بأنّهُ حيوانٌ متّديِّنٌ بفِطرَتِهِ”(الدين). ويقولُ أرنولد توينبي: “إنَّ جوهَرَ الدّينِ ثابِتٌ ثباتَ جوهَرِ الطّبيعةِ البشريّةِ ذاتِها؛ فالدّينُ في الحقيقةِ صِفةٌ ذاتيّةٌ مميِّزَةٌ للطّبيعةِ البشَريّةِ”(تاريخُ الإنسانيّة). ومُعجمُ لارُوس للقرنِ العشرينَ يَصِفُ هذا المعنى قائلًا: “إنَّ الغريزةَ الدّينيَّةَ مُشترِكَةٌ بينَ كُلِّ الأجناسِ البشريّةِ، حتى أشَدَّها همَجيَّةً. وأقربَها إلى الحياةِ الحيوانيّةِ. وإنَّ الاهتمامَ بالـمَعنى الإلٰهيِّ وبما فوقَ الطّبيعةِ هو إحدَى النّزَعاتِ العالَميَّةِ الخالِدَةِ للإنسانيّةِ”(الدين).
والحاجةُ إلى الدّينِ حاجَةٌ عقليّةٌ كذلكَ، فالعقلُ الإنسانيُّ يحتاجُ إلى مَن يرعاهُ رِعايةً كامِلةً، ويُبَوِّئهُ مكانَهُ اللائقَ بهِ، فلا يُهدِرُهُ ولا يَحُطُّ مِن قيمَتِهِ، ولا يؤلِّـهُهُ ويحمِّلُهُ فوقَ طاقَتِهِ. فحمايَةُ العقلِ ممّا يُفسِدُهُ سواءً في المُعتقداتِ من شركٍ وخُرافاتٍ، أوِ الأفعالِ مِن سُكْرٍ وإدمانِ محرَّماتٍ، مطلَبٌ ضَروريٌّ للحِفاظِ على العقلِ سليمًا صحيحًا، ومِثلُ هذا الـمَطلَبِ لا يتحقَّقُ إلا بوُجودِ مصدرٍ مُطلَقٍ للعِلمِ، قادرٍ على حمايةِ العَقلِ، وبهذا نقصِدُ الدّينَ. والعقلُ لهُ حدودٌ لا يستطيعُ تجاوُزَها، خارجَةٌ عن مَجالِ قُدرتِهِ. وهو وإن أمْكنَهُ معرفةُ حُسنِ العَدلِ وقُبحِ الظُّلمِ على وجهِ الإجمالِ، لا يستطيعُ معرفةَ حُكمِ كلِّ فِعلٍ معيَّنٍ على وجهِ التّفصيلِ. وهذا فضلًا عن أجوِبةِ الأسئلةِ الوجوديّةِ الكُبرى، والغُيوبِ المتعلِّقةِ بالله،ِ وإثابةِ الطائعينَ ومُعاقبةِ العاصينَ، فذلكَ ممّا لا يُعلَمُ إلا بتَبيينِ الدِّينِ وتفصيلهِ، واستقامةُ حالِ العقلِ وصلاحُهُ مَبنيٌّ على ذلكَ. والعقلُ وإنِ استطاعَ الوصولَ للصوابِ في أمورٍ مَخصوصةٍ، فلا ضَمانةَ في حصولِ الالتزامِ بما يَقتضيهِ العقلُ مِن حقٍّ، وذلكَ راجعٌ للأهواءِ والنّزَواتِ التي يَنساقُ وراءَهَا كثيرٌ منَ الناسِ، فحصولُ الالتزامِ بالحقِّ يَحتاجُ إلى قوةٍ عُليا -أيِ اللهُ سبحانَهُ وتعالى- لها الحقُّ المطلَقُ والقدرةُ المُطلقَةُ، مخوَّلَةٌ أن تُوجِبَ على الناسِ الخضوعَ للحقِّ. وهذا هو الذي يُقَيِّمُهُ الدينُ، فهوَ مِنْ جِهَةٍ يوفِّرُ بيانًا تفصيليًا كافيًا شافيًا للحقِّ والباطلِ، للصالحِ والطّالح، للحسَنِ والسيِّءِ، ومِن جهةٍ أُخرى يضمَنُ تطبيقَ ذلكَ البيانِ الحقِّ في حياةِ الناسِ وشؤونهِم، فبِهِ يتحقَّقُ العدلُ ويَنكسِرُ سلطانُ الظُّلمِ.
والحاجةُ إلى الدينِ كذلكَ حاجةٌ نفسيّةٌ روحيّةٌ، فالدينُ هوَ الذي يَسمو بالنّفسِ لتُحقِّقَ الكمالَ الإنسانيَّ والاستقرارَ النّفسيَّ والرُّوحيّ. وبهِ تقومُ الصِّلَةُ بينَ العَبد وخالِقِهِ. وفيهِ تَسمو وتَرقى العواطِفُ النّبيلةُ لتُحقِّقَ صورتَها المثاليَّةَ. وفيهِ منَ الدّعوةِ إلى الأخلاقِ الفاضلةِ والآدابِ الحميدةِ ما يُطهِّرُ الإنسانَ مِن مُستنقَعِ الشّهَواتِ الماديّةِ المُتوحِّشِ. وبهِ يستطيعُ الإنسانُ التّحرُّرَ مِن قُيودِ الأهواءِ والنّزَواتِ وسِجْنِها، لكي يعيشَ حُرًّا في جَنبِ خالقِهِ سبحانَهُ. وفيهِ منَ الحُصونِ والقِلاعِ ما يَحمي صاحِبَهُ مِن أمراضِ النّفوسِ والقلوبِ. يقولُ ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ: “لا حياةَ لهُ – قلبُ الإنسانِ- ولا فلاحَ ولا نعيمَ ولا سرورَ إلّا برِضاهُ -الله- وقُربِهِ والأنسِ بهِ؛ فبهِ يَطمئِنُّ، وإليهِ يَسكُنُ، وإليهِ يَأوي، وبهِ يَفرحُ، وعليهِ يتوكّلُ، وبهِ يثِقُ، وإياهُ يَرجو، ولهُ يَخافُ، فذِكرُهُ: قُوْتُهُ وغِذاؤهُ، ومحبَّتُهُ والشّوقُ إليهِ: حياتُهُ ونعيمُهُ ولَذّتُهُ وسرورهُ، والالتفاتُ إلى غيرِهِ والتُعلُّقُ بِسِواهُ: دَاؤهُ، والرجوعُ إليهِ: دَوَاؤهُ، فإذا حصَلَ لهُ ربهُ سكنَ إليهِ، واطمأنَّ بهِ، وزالَ ذلكَ الاضطّرابُ والقلَقُ، وانسَدَّتْ تلكَ الفاقَةُ؛ فإنَّ في القلبِ فاقةً لا يَسدُّها شيءٌ سِوى اللهِ تعالى أبدًا، وفيهِ شَعَثٌ لا يلُمُّهُ غيرُ الإقبالِ عليهِ، وفيهِ مرضٌ لا يَشفيهِ غيرُ الإخلاصِ لهُ وعبادَتُهُ وحدَهُ “(إغاثةُ اللهفانِ من مصايِدِ الشيطانِ).
وآخر الحاجات الفردية التي نذكرها هنا هيالحاجةُ الشرعية، هذه الحاجةُ هي الحاجة العُظمى والغايةُ الأسمى والتي عليها معنى الخَلقِ كُلّهِ. فإنَّ الدينَ وإنِ احْتيجَ لهُ فطرةً وعقلًا ونفسًا وروحًا، فالاحتياجُ إليه شرعًا أعظمُ وأظهَرُ، وإنِ استطاعَ الإنسانُ معرفةَ بعضِ ما يَصلُحُ لهُ مِن طريقِ الفِطرَةِ والعقلِ والحِسِّ فإنَّ المعاني الشرعيّةَ التي يَحيا بها حقيقةٌ لا تُدرَكُ إلّا مِنْ طريقِ الدّينِ. فالدّينُ في الأساسِ إنّما جُعِلَ ليَدُلَّ الخلقَ على ما لا يمكِنُهُم بلوغُهُ إلا عن طريقِ الخبرِ منَ اللهِ تعالى. فهو جُعِلَ ليُعرِّفَ الخَلْقَ بخالقِهِم وصفاتِه الحُسنى وأسمائهِ العُلى، وكذا ليعرِّفَ الخَلقَ بما ينبغِي أنْ يكونَ بينَهم وبينَ خالقِهِم مِن عِلاقةٍ وصِلةٍ وعبادةٍ وخُضوعٍ وتذلُّلٍ مما لا يكونُ صلاحُهُم إلا بهِ. وكذا الحِرصُ على بقاءِ هذهِ الصّلَةِ وتَوثيقِها في كلِّ آنٍ وكلِّ حينٍ. ويقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: “ليسَ المرادُ بالشّرعِ التّمييزُ بينَ الضّارِّ والنّافعِ بالحِسِّ، فإنّ ذلكَ يحصُلُ للحيواناتِ العَجَمِ؛ فإنّ الحمارَ والجَمَلَ يُميِّزانِ بينَ الشّعيرِ والتُّرابِ، بلِ التّمييزُ بينَ الأفعالِ التي تَضرُّ فاعِلَها في معاشِهِ ومَعادِهِ كنَفعِ الإيمانِ والتوحيدِ والعدلِ والبِرِّ والتّصدُّقِ والإحسانِ والأمانةِ والعِفّةِ والشّجاعةِ والحِلمِ والصّبرِ والأمرِ بالمعروفِ والنّهيِ عنِ المنكرِ وصلةِ الأرحامِ وبرِّ الوالدينِ والإحسانِ إلى المماليكِ والجارِ وأداءِ الحقوقِ وإخلاصِ العملِ للهِ والتوكُّلِ عليهِ والاستعانةِ بهِ والرّضا بمواقعِ القدَرِ والتسليمِ لحُكمِهِ والانقيادِ لأمرهِ ومُوالاةِ أوليائِهِ ومُعاداةِ أعدائهِ وخَشيَتِهِ في الغَيبِ والشّهادةِ والتقرُّبِ إليهِ بأداءِ فرائضهِ واجتنابِ محارِمهِ واحتسابِ الثّوابِ عندَهُ وتصديقِهِ وتَصديقِ رسُلِهِ في كلِّ ما أخبروا بهِ وطاعتِهِ في كلِّ ما أمروا بهِ، مما هوَ نَفعٌ وصلاحٌ للعبدِ في دُنياهُ وآخرَتِهِ وفي ضِدِّ ذلكَ شَقاوَتُهُ ومَضرَّتُهُ في دُنياهُ وآخرَتِهِ” (مجموعُ الفَتاوى). ويقولُ كذلكَ في مَوطِنٍ آخَرٍ: “والرسالةُ ضروريةٌ للعبادِ، لا بدَّ لهم مِنها، وحاجَتُهم إليها فوقَ حاجَتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والرسالةُ روحُ العالمِ ونورهُ وحياتُهُ، فأيُّ صلاحٍ للعالمِ إذا عُدِمَ الروحَ والحياةَ والنورَ؟ والدُّنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلّا ما طلَعَتْ عليه شمسُ الرّسالةِ، وكذلكَ العبدُ ما لم تُشرِق في قلبِهِ شمسُ الرّسالةِ، ويَنالُهُ مِن حياتِها وروحِها فهوَ في ظُلمةٍ، وهوَ منَ الأمواتِ، قال اللُه تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصفُ المؤمنِ؛ كانَ ميّتًا في ظلمةِ الجهلِ، فأحياهُ اللهُ بروحِ الرسالَةِ ونورِ الإيمانِ، وجعلَ لهُ نورًا يمشي بهِ في الناسِ، وأمّا الكافرُ فميِّتُ القلبِ في الظّلُماتِ”(مجموع الفتاوى).
- الحاجةُ المجتمعيّةُ (اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا)
تأثيرُ الدينِ ليسَ محصورًا في الفردِ مِن حيثُ هوَ فردٌ، بل يتعدّاهُ إلى إصلاحِ الأُممِ و المجتمعاتِ. فالدينُ يُكوِّنُ رابِطةً اجتماعيةً بينَ أفرادِهِ أقوى وأسمى وأعدلَ مِن كلِّ الروابطِ القِبَليّةِ والعصَبيّاتِ والقوميّاتِ. رابطةٌ مبنيّةٌ على العدلِ والتراحُمِ والتآخِي والتّكافُلِ والتّعاطفِ والمحبّةِ. رابطةٌ مرجِعيّتُها الوَحيُ ومرَكزيّتُها العبوديّةُ للهِ. والدينُ للمجتمَعِ ضروريٌّ في تماسُكِهِ وتلاحُمِهِ، وبغيابهِ تنهارُ كلُّ العهودِ والمواثيقِ البشَريّةِ، يقولُ جون لوك: “وأخيرًا لا يمكنُ التّسامحُ على الإطلاقِ معَ الذينَ ينكِرونَ وجودَ اللهِ. فالوعدُ والعهدُ والقسَمُ، من حيثُ هيَ روابطُ المجتمعِ البشَريِّ ليسَ لها قيمةٌ بالنّسبةِ للمُلحدِ. فإنكارُ الله،ِ حتى لَو كانَ بالفِكرِ فقط، يُفكِّكُ جميعَ الأشياءِ”(رسالة في التسامح). ويقولُ عباس محمود العقاد في وصفِ حاجةِ المجتمَعِ للدّينِ: “إنَّ تجارُبَ التاريخِ تقرِّرُ لنا أصالةَ الدّينِ في جميعِ حرَكاتِ التاريخِ الكُبرى، ولا تَسمحُ لأحدٍ أن يَزعُمَ أنَّ العقيدةَ الدّينيّةَ شيءٌ تَستطيعُ الجماعَةُ أنْ تُلغيَهُ، ويستطيعُ الفردُ أنْ يَستغنيَ عنهُ، في عِلاقتِهِ بتلكَ الجَماعةِ، أو فيما بينَهُ وبينَ سريرَتهِ المطويّةِ مِنْ حولِهِ، ولو كانوا مِن أقربِ الناسِ إليهِ. ويقرِّرُ لنا التاريخُ أنّهُ لم يكُنْ قَطُّ لعاملٍ مِن عوامِلِ الحرَكاتِ الإنسانيّةِ أثرٌ أقوى وأعظمُ مِن عاملِ الدّينِ، وكلُّ ما عداهُ منَ العوامِلِ الأخرى في حركاتِ الأمَمِ، فإنّها تتَفاوَتُ فيها القوةُ بمقدارِ ما بينَها وبينَ العقيدةِ الدّينيةِ منَ المشابَهةِ في التّمكُّنِ مِن أصالةِ الشُّعورِ وبواطنِ السَّريرةِ. هذهِ القوّةُ لا تُضارِعُها قوّةُ العصَبيّةِ، ولا قوّةُ الوطَنيّةِ، ولا قوّةُ العُرفِ، ولا قوّةُ الأخلاقِ، ولا قوّةُ الشّرائِعِ والقوانينِ؛ إذْ كانَت هذهِ القوّةُ إنما تَرتبِطُ بالعِلاقَةِ بينَ المرءِ ووطنِهِ، أو العلاقةِ بينَهُ وبينَ مُجتمعِهِ، أوِ العلاقةِ بينَهُ وبينَ نوعِهِ، على تعدُّدِ الأوطانِ والأقوامِ. أمّا الدّينُ فمرجِعُهُ إلى العلاقةِ بينَ المرءِ وبينَ الوجودِ بأسْرِهِ، ومَيدانُهُ يتّسعُ لكلِّ ما في الوجودِ مِن ظاهرٍ وباطنٍ، ومِن علانِيَةٍ وسرٍّ، ومِن ماضٍ أوْ مَصيرٍ إلى غيرِ نهايةٍ، بينَ آزالٍ لا تُحصى في القِدَمِ، وآبادٍ لا تُحصى فيما ينكشِفُ عنهُ عالَمُ الغيوبِ. وهذا على الأقلِّ هوِ مَيدانُ العقيدةِ الدينيّةِ في مَثَلها الأعلى، وغاياتِها القُصوى، وإنْ لم تستَوعبْها ضمائرُ المُتدينينَ في جميعِ العُصورِ”(حقائقُ الإسلامِ وأباطيلُ خصومِهِ).
والحاجةُ للدّينِ في بناءِ المجتمَعِ تُماثِلُها الحاجةُ إليهِ في سياسةِ الناسِ ورِعايةِ شؤونِ دُنياهُم. فالإسلامُ دينٌ يَشمَلُ جميعَ مناحِي الحياةِ تشريعًا ورعايةً، يَحكمُ بينَ الناسِ بميزانَ القِسْطِ والعدلِ ويقودُ الخلقَ بشريعةِ خالقِهِمُ العليمِ اللطيفِ الخبيرِ. ومحاولةُ حصرِهِ في الشّعائِرِ التّعبديةِ وإبعادِهِ عن حياةِ الناسِ مَزلَقٌ خطيرٌ وتَعَدٍّ مُهلِكٌ على حقِّ الخالقِ في التّشريعِ والحُكمِ والتحاكُمِ إليهِ. يقولُ الشّاطبيُّ: “المصالحُ التي تقومُ بها أحوالُ العبدِ لا يعرِفُها حقَّ معرِفَتِها إلا خالِقُها وواضِعُها، وليسَ للعبدِ بها علمٌ إلا مِن بعضِ الوجوهِ، والذي يَخفى عليهِ مِنها أكثرُ منَ الذي يَبدو لهُ، فقد يكونُ ساعيًا في مَصلَحةِ نفسِهِ مِن وجهٍ لا يوصِّلُهُ إليها، أوْ يوصِّلهُ إليها عاجلًا لا آجلًا، أو يوصِّلهُ إليها ناقصةً لا كاملةً، أوْ يكونُ فيها مَفسدةٌ تُربّي -في المُوازنةِ- على المصلحةِ، فلا يَقومُ خَيرُها بِشَرِّها. وكم مِن مُدبِّرٍ أمرًا لا يَتِمُّ لهُ على كمالِهِ أصلًا، ولا يَجني منهُ ثمَرةً أصلًا، وهوَ معلومٌ مُشاهَدٌ بينَ العُقَلاءِ، فلِهذا بعَثَ اللهُ النّبيينَ مُبَشِّرينَ ومنذِرينَ، فإذا كانَ كذلكَ فالرجوعُ إلى الوَجهِ الذي وضعَهُ الشّارعُ، رجوعٌ إلى وجهِ حُصولِ المَصلحَةِ والتّخفيفِ على الكمالِ بخلافِ الرّجوعِ إلى ما خالَفَهُ”(الموافقات).
وبمثْلِ ذاكَ الحاجةُ الاقتصاديّةُ للدّينِ. فبابُ المالِ مِن أكثرِ الأبوابِ التي تقعُ فيها المَظالمُ والخِلافاتُ، بل والحروبُ. والنّفسُ الإنسانيّةُ مَفطورةٌ على حُبِّ المالِ، قالَ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران 14) ، ولِذا فهيَ تَحتاجُ إلى نِظامٍ عادلٍ مُتَوافقٍ مع جِبِلَّتِها يَقِيها أنْ تَحيدَ أو تَزيغَ في بابِ المالِ والمُعاملاتِ. والأمثلةُ كثيرةٌ ومتوافِرةٌ على الحالِ التي آلَتْ لها البشَريّةُ في زمَنِ طُغيانِ الماديّةِ والرأسماليّةِ والنّفعيةِ، التي بلَغَ فيها الجَشَعُ البشَريُّ أبشَعَ صُورِهِ. حيثُ نشرَتْ مُنظّمَةُ أوكسفام في يناير ٢٠٢٠ إحصائيّةً تفيدُ بأنَّ الثروةَ التي يَملكُها ألفانِ ومائةٌ وثلاثةٌ وخمسونَ شَخصًا تفوق ما يَملكُه 4.6 مليارَ إنسانٍ مِن سُكّانِ العالمِ.
وإحصائيّةٌ أُخرى لنَفْسِ المنظَّمةِ أشارَتْ إلى أنَّ اثنَينِ وثمانينَ بالمئةِ منَ الثّروَةِ التي جُمِعَتْ في عامِ ألفينِ وسبْعةَ عشَرَ حصَلَ عليها واحِدٌ بالمئةِ فقَط مِن سُكّانِ العالَمِ منَ الطّبَقَةِ الأكثرِ ثراءً. فمثلُ هذا التّفاوُتِ الفاحشِ هوَ النّتيجةُ الحَتْميّةُ لغِيابِ الدّينِ عنِ الحياةِ الاقتصاديّةِ للناسِ. والإسلامُ في تَشريعاتِهِ لا يَمنعُ الفردَ مِنْ حقِّ الامتلاكِ مِثلما تَفعَلُ بعضُ المذاهِبِ والأيديولوجيّات، مخالِفَةً بذلكَ فِطرةَ الإنسانِ نفسِهِ، بل يُنَظِّمُ الحياةَ الاقتصاديّةَ بتَشريعاتٍ تُحقِّقُ العدلَ والقِسطَ، وتَحفَظُ للفقيرِ حقَّهُ مِنْ عندِ أخيهِ الغنِيِّ، في مُجتمعِ الجسَدِ الواحِدِ المُتراحِمِ المُتَماسِكِ. فلا يوجَدُ صِراعٌ بينَ الطّبَقاتِ يَدورُ في فَلَكِهِ التاريخُ، ولا إطلاقٌ كُلِّيٌّ لأهواءِ البشَرِ في التّعامُلاتِ الماليّةِ.
والحاجَةُ للدّينِ تشمَلُ الحاجةَ إليهِ في ميدانِ العلومِ التَّجريبيَّةِ. يقولُ الدّكتور سلطان العميريّ: ” فإنَّ العِلمَ التّجريبيَّ قاصِرٌ عن إدراكِ القيَمِ العُليا التي تَضبِطُ حياةَ الإنسانِ، وحياةُ الإنسانِ أوسَعُ مِنْ أنْ يستَوعِبَها مَنهجٌ تَجريبيٌّ لا يمكنُهُ إدراكُ ما خرَجَ عنِ الأمورِ الحِسيّةِ، والعلمُ الحديثُ قاصِرٌ عن إدراكِ الكونِ الحِسيِّ، فكيفَ يمكِنُهُ أنْ يُدرِكَ ما هوَ أعلى منهُ وأجَلّ؟! “(ظاهرةُ نقدِ الدّينِ في الفِكرِ الغَربيِّ بتصرُّف). فمسائل ٌكالقيَمِ والأخلاقِ والوَعيِ والإدراكِ والإرادةِ الحُرّةِ لا يستطيعُ العِلمُ التجريبيُّ الماديُّ فَهمَ كُنْهِهَا ولا الإدلاءَ بدُلُوِّهِ فيها. والعلمُ التّجريبيُّ الخَالي مِنْ ضوابطَ قَيّمةٍ تَقودُهُ وتَدُلُّهُ، خطيرٌ على الجنسِ البشَريِّ ككُلٍّ، وآثارُهُ وخيمةٌ ومُدَمِّرَةٌ. حيثُ يقولُ ألبرت آينشتاين عنِ العلمِ في هذا الصّدَدِ: “إنهُ لمْ يُستَخدَم حتى اليومَ إلا في خَلقِ العَبيدِ، ففِي زمَنِ الحربِ يُستَخدَمُ في تَسميمِنا وتَشويهِنا، وفي زمنِ السِّلمِ يَجعلُ حياتَنا مَنهوكةً، ومُرهِقةً”(دفاعٌ عنِ العلمِ). فمُسَمّياتٌ كالقنابِلِ الذريّةِ وأسلحةِ الدّمارِ الشّامِلِ والتّلوُّثِ البيئيِّ وانحسارِ الغاباتِ وتآكُلِ التُّربةِ والنِّفاياتِ السَّامّةِ، ما هيَ إلا أمثِلةٌ قليلةٌ على الآثارِ المُهلِكةِ التي قد يؤدّي إليها العِلمُ إذا لم يكُنْ مَحكومًا بشَريعةٍ ربَّانيّةٍ حَقَّةٍ. يقول مؤلِّفا كتابِ “انتحارِ الغَربِ” في بيانِ هذا المَعنى: “كانَ منَ المُعتادِ أنْ يُعتقَدَ أنَّ العلمَ سوفَ يَمنحُ العالِمَ منافِعَ ضَخمةً، وكانَ منَ المُعتادِ أن يكونَ قادِرًا على الوفاءِ بهذهِ التّوقُّعاتِ… لكنْ قبلَ ذلكَ هناكَ تيّارٌ مُضَادٌّ قويٌّ في التّقديرِ العامِّ للعلمِ، وهوَ التّيارُ الذي كانَ قدْ بدأَ في السنواتِ التي كانَتْ بينَ الحربَينِ- الأولى والثانيةُ -… وهوَ أنَّ العِلمَ يَنزَعُ عنِ الإنسانِ صفاتَهُ الإنسانيّةَ، وكانَ أداةً سهلةً جدًّا للمستبدّينَ، ومنحَ الامتيازاتِ للنُّخبةِ، وتضاعَفَ الشكُّ في العِلمِ على نَحوٍ ضَخمٍ، وتعمّقَ نتيجةً لفَظائعِ هيروشيما… وقد عبّرَ العلماءُ البارِزونَ عن شكوكِهِم، وقالَ أينشتاين بعدَ هيروشيما: لوْ كنتُ أعرفُ أنّهم يستعملونَ هذا، لكنتُ عمِلْتُ صانعَ أحذيَةٍ”. وهذا دونَ الكلامِ عن ما قَد يُحدِثُهُ التّقدُّمُ التِّكنولوجيُّ غيرُ المُنضَبطِ مِن تَغييراتٍ على الإنسانِ والمجتمعاتِ. فالحاجةُ إلى نظامٍ أعلى -يضَعُ العِلمَ في مَكانِهِ الخاصِّ بهِ ويجعَلُهُ وسيلةً في تحقيقِ الغايةِ مِن خَلقِ الإنسانِ- حاجةٌ شديدةٌ، بل ضرورية.ٌ
بهذا نكونُ قد مرَرْنا على بعضِ النُّبَذِ السّريعةِ في بيانِ حاجةِ البشَريّةِ جَمْعاءَ للدّينِ الحقِّ، وإلّا فاستيعابُ آثارهِ وجميعِ جوانِبِ احتياجِ الخَلقِ إليهِ تَقصُرُ عنهُ الأنفُسُ وتنقَطِعُ دونَهُ السّبُلُ. ويَظهَرُ جَليًّا في نهايةِ هذهِ المقالةِ أنَّ الدينَ مَطلَبٌ إنسانيٌّ ضَروريٌّ لا بديلَ عنهُ في جميعِ نواحِي الحياةِ البشَريّةِ، مرَكوزٌ في فِطَرِ النّاسِ، حافِظٌ لعُقولهِم، مُهَذِّبٌ لأرواحِهِم، واصِلٌ بينَهُم وبينَ خالِقِهم، مُنَظِّمٌ لشؤونِ حياتِهم كُلِّها، فلا يَقبَلُ عاقلٌ بعدَ كُلِّ هذا مثلَ تلكَ ًالمُهاتراتِ السَّخيفةِ التي تَزعُمُ عدمَ الحاجةِ إليهِ ووجودَ ما يُغني عنهُ.
المراجع :
– وظيفة الدين في الحياة و حاجة الناس إليه، محمد الزحيلي.
– ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي، سلطان العميري.
– حاجة البشرية إلى الدين، رمضان فوزي بديني.
الكاتب: محمد أمين قراس