القضية الفارقة!
قوة الأدلة على كون الإسلام هو الدين الحق ..كم يترتب على هذه القضية من آثار ضخمة !
لنستحضر أولا أن صحة الإسلام مبرهنة بأدلة كثيرة أعظمها القرآن الكريم، والذي يستحيل نسبته للنبي ﷺأو لغيره من البشر، لكونه معجزا في نظمه ومعانيه،
لا يمكن لبشر الإتيان بمثله ولا ما يقاربه، وهو أيضا معجز في مضامينه، فليس في الوجود كتاب أثنى على الله ووصفه بالكمال المطلق وعظّم حقه كالقرآن، مع اشتماله على إجابة الأسئلة الوجودية والتعريف بالله ووصفه بما يتوافق مع العقل والفطرة ويعززها،
فهو الدين السماوي الوحيد الذي يتصف بذلك، ومع ما فيه من إخبار بالغيوب الماضية والمستقبلية، ومع ما فيه من نظم تعبدية وأخلاقية وتشريعية عميقة وشمولية وظاهرة المحاسن، ولم يسبق ولم يلحق أن أتى كتاب يقارب حتى هذه المضامين العظيمة، خاصة مع معرفة واقع النبي ﷺ من جهة أميته وبيئته وطبيعة حياته وسيرته، فيستحيل أن يكون هو مصدر هذه المضامين لا من جهة طبيعتها ولا من جهة قدرها وتعقيدها وكمالها .
ولو نظرت للإسلام من جهة دلائل صدق النبي ﷺ الأخرى فستجد في سيرته الخلقية ما يدل قطعا على صدقه واستحالة كذبه، ولا يمكن أن يلتبس على عاقل الصادق بالكاذب في أعظم دعوى وهي دعوى النبوة،
فمن يدعيها سيكون أعظم الصادقين أو أعظم الكاذبين، وكيف يلتبس هذا بهذا في سيرته وأخلاقه! وكيف يؤيد الله الكاذب كل هذا التأييد! حتى يلتبس حاله كل هذا الالتباس على خلقه، فهذا يتنافى مع حكمته ورحمته سبحانه
كما ستجد في ما ورد من الأخبار المتواترة التي تفيد القطع ما يدل على صحة نبوته، لما أتى به من الآيات، كتكثير الطعام وتسبيح الحصى بين يديه وإخباره بالمغيبات الكثيرة ووقوعها وانشقاق القمر له
وهذا كله يكفي من تأمله ليصل للحقيقة ويتيقن بها، ويدرك أن الإسلام لا يمكن للعقل أن يقبل اعتباره مساويا لغيره وكأنه وجهة نظر محتملة أو دعوى مجردة أو خفية الدلائل
لكن ليس هذا مقصد الإضاءة الأصلي ولذلك أجملناه ولم نعطه حقه من التفصيل الذي يطول جدا ويصعب حصره خاصة إذا أردنا تفصيل كل جملة وتعداد أفراد كل نوع من أنواع ما ذكرنا من الدلائل
وإنما مقصدنا هنا التنبيه للآثار الضخمة التي تترتب على هذه القضية، من جهة كونها قطعية لا ظنية أو نسبية!
ولهذا دور عظيم في فهم الإسلام ودوره في الحياة.. وله دور عظيم في فهم وتحمل الإنسان لما فيه من تصورات كبيرة ومؤثرة، وتكاليف تفرض تميزاً كبيراً وترسم منهجاً فريداً، بما يخالف في كثير منه كثيرا من السائد في هذا العالم، ابتداءً من الأسس والتصورات الكبرى ووصولاً للتفاصيل..
فهو دين يطلب تغييراً شاملاً عميقاً على مستوى الفرد والجماعة في تعاملاتها فيما بينها وفي تعاملاتها مع غيرها
وغالبا ما نهرب من مساحة الأسس والتصورات الكبرى، وننهمك في الاستشكال للتفاصيل أو حتى إنكارها بحثاً عن التوافق، والمسألة أعمق من ذلك.
هل إشكالاتنا بالفعل هي في بحث عقوبة الردة وحكم جهاد الطلب والجزية وعقوبة الرجم وغير ذلك مما تكثر فيه التساؤلات؟ وهل لو استطعنا الخروج برؤية أو أخرى تخلّصنا من اختلافنا مع الذوق العالمي “الإنساني” حول هذه القضايا ستنتهي المشكلة ونتوافق! ويكون ديننا جميلا في أعينهم؟؟
جوابي: هذا هروب وتسطيح فظيع! وأكمل القراءة لتدرك عمق الفرق.. دعنا نتجه لإدراك عمق الاختلاف في الأصول والأسس :
كثير من الناس يزعم أننا حين نترك التفاصيل ونتجه للمقاصد والأصول الكبرى سنضع أيدينا على مساحة هي من المشتركات الإنسانية التي لا خلاف حولها، لكن تعال انظر للضرورات الكبرى الخمس التي تدور حول حفظها مقاصد الشرع، ماذا تجد؟ حفظ الدين وهي أعلاها عندنا، نحن لا نتفق فيها أبدا، خاصة إذا أدركت أعظم المضامين التي يقررها القرآن بوضوح وتدور عليها كثير من التصورات الكبرى، ومن أهم تلك المضامين التي تغيب كثيرا:
- وضوح صحة الرسالة والرسول
- أن ظهورها على غيرها مقصود، والفرق بين الناس بحسب موقفهم منها أساس يبنى عليه في أحكام الدنيا والآخرة
- عظم حق الله وأن الدين مبني عليه
عظم جرم الكفر وعودته لأسباب خبيثة كإيثار الحياة الدنيا والاستكبار والتعصب والهوى والحسد
هل يتفقون معنا علناً في أي من هذه ؟ لا
العالم اليوم يعتبر الدين مسألة فردية ولا تبحث أساساً بمنطق الحق والباطل ولا تبنى عليها بهذا الاعتبار أية مواقف أو أحكام، وهذا طرح غريب جداً عنا حيث ينص القرآن على أنه مبين ونور ومهيمن ويحكم وحق وما سواه باطل والرسول مبين ودينه ظاهر على الدين كله ومن يرفض ويكذبه مستكبر متبع للهوى مؤثر للحياة الدنيا متعصب لما عليه الآباء كافر ملعون مصيره النار خالدا فيها!
العالم اليوم يطفح بالحديث عن الحقوق ويبني عليها التصورات، هل سمعت في لغته يوما عن حق الله ﷻ وبناء أي شيء عليه؟! فضلا عن تجريم الكفر به واتخاذ أي موقف ولو بالقلب بناء على ذلك!؟
تعال لضروري آخر وهو حفظ العرض، هل العالم اليوم يقيم وزنا ولو بمثقال ذرة لهذا الموضوع؟ أو أنه يعتبر الزنا حالة طبيعية وحقا مكفولا ؟ وبالتالي لا يبني أي حكم عليه، وإنما يهتم بحماية التراضي على الزنا وتجريم الممارسات التي تنافيه فقط؟
تعال لضروري حفظ العقل! العالم اليوم يزخر بالمسكرات ويحمي شربها ويكتفي ببعض القوانين التي تمنع بعض الأضرار المتعدية الناشئة عنها كمنع القيادة تحت تأثيرها إذا تجاوزت نسبة معينة
تعال لحفظ المال! العالم يستبيح الربا بأضراره الجسيمة ويستبيح الغرر وأكل المال بالباطل بشتى صوره، وقد تحولت هذه المنكرات لصناعات ضخمة بل هي أعمدة الاقتصاد اليوم
فإذا كنا نختلف في كل هَذَا على مستوى الأصول، فهل لا زال البعض يرى نفسه مثلهم في ظل إيمانه بهذا الدين؟؟
نعم نشترك في بعض بقايا الفطرة والدين التي تقضي عليها ماديتهم ولا دينيتهم شيئا فشيئا، ولكن لن يقود التفكير الجاد بسبب ذلك لنتيجة التوافق العام على مستوى الأصول
من الطبيعي إذا على إثر هذا الاختلاف في الأصول أن نختلف في التفاصيل، فلنكن جادين في البحث بدلا من الهروب للتفاصيل وتشتيت التركيز فيها، لنتخذ موقفا جادا في المستوى الأعلى
نحن لدينا رؤية مختلفة حول الوجود والحقوق والضروريات والمقاصد، وتبعا لذلك تختلف أحكام الواجبات والتصرفات بأنواعها، وهذا عظيم جدا، ولا يمكن أن يتبناه إنسان إلا بناء على إدراك هذا الفرق العظيم والاقتناع ببراهينه، وهي في الحقيقة براهين عظيمة، بل هي البراهين الوحيدة وغيرنا بلا براهين أصلا في مستوى التأسيس لتصوراته ورؤاه، هكذا بكل حزم وثقة!
الخلاصة:
علينا أن نعتز بديننا ونرفع رؤوسنا به وندرك أننا نتميز به بشكل جذري، وأن ذلك التميز يحدث فارقا ضخما بيننا وبين الكفار في أعلى مستويات التصورات والأحكام، فمن أكبر الخطأ أن نحاول أن نعيد قراءة ديننا بطريقة تجعلنا غير مختلفين عنهم، أو أن نتبنى منظومات التصور الخاصة بهم ونحاكم ديننا إليها فنستشكل ونستنكر.. وننسى أن تلك المنظومات اختزالية نسبية اعتباطية غير قائمة على براهين، وأن الأدلة القاطعة تفرض علينا العكس، فعلينا أن نعتز بالدين الحق ونعتنقه مرجعا حاكما على كل شيء.
الكاتب: د.طارق عنقاوي