إنّنا كمسلمين لا بدّ لنا من مصادر أساسية نؤمن بها ونعمل بمضمونها، وإذا ما اختلفنا رجعنا إليها، وأوَّلها: هو القرآن الكريم؛ ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم يخاطِب عامّة الأمة، فما أُمرنا فيه بأمرٍ فعلناه، وما نُهينا عنه تركناه.
ومن جملة الأوامر التي أمرنا بها: الطَّاعة المطلقة للرسول -ﷺ-، فقد قال سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم} [النساء: ٥٩]، وقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسولَ فَقَد أَطاعَ اللَّهَ }[النساء: ٨٠]، وقوله تعالى: {فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخالِفونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصيبَهُم عَذابٌ أَليمٌ} [النور: ٦٣].
فإذا علمنا ذلك أدركنا احتياج عموم أهل الإيمان إلى الكتاب والسنة في كل الأزمان لحل نزاعاتهم ولفهم دينهم والعمل به، فسنة النبي -ﷺ- لا غنى لمسلم عنها في كل عباداته.
فكان لزامًا على المسلمين أن يعتنوا بالمصدر الثاني من التشريع والاحتجاج، ويتفانوا في ضبطه وحفظه من عبث العابثين، جاء في مقدّمة صحيح مسلم: «يكون في آخر الزّمان دجَّالون كذَّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيَّاهم، لا يضلّونكم، ولا يفتنونكم».
قال الخطيب البغدادي في الكفاية: «وقد أخبر النبي -ﷺ- بأن في أمته ممن يجيء بعده كذابين، فحذَّر منهم، ونهى عن قبول روايتهم، وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين، احتياطًا للدين، وحفظًا للشريعة من تلبيس الملحدين»[١].
ولقد اعتنى المحدثون منذ صدر الإسلام بتدوين الحديث، كما قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -ﷺ- أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -ﷺ-، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»[٢]، وتفانوا في حفظه وروايته بعد وفاة النبي -ﷺ-، واجتهدوا في تحقيقه وضبطه، وتنقيح رواته اجتهادًا لم تسبقهم قبلهم أمة في ذلك، فوضعوا شروطًا صارمة في الحديث بحيث إذا توفرت فيه هذه الشروط اعتبر صحيحًا يجب العمل به ويُحتَجُّ به، فإذا “اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة“[٣]؛ كان الحديث صحيحًا.
وأهم هذه الشروط: هو الضبط الذي يُعنى بأهليَّة الراوي لنقل الحديث بإتقان وحفظ كما سمعه من غير زيادة ولا نقصان، وللمحدثين وسائل في معرفة مدى ضبط الراوي للحديث منها:
أولًا– دراسة المتون والأسانيد التي رواها الراوي واختبارها من جهة نقد المتن.
ثانيًا– مقارنة أحاديثه مع أحاديث الثقات المشهورين بضبطهم.
ثالثًا اختبار الراوي عن طريق تلقينه الخطأ، فإذا تلقنه حُكِم عليه بالضعف وتُرِك حديثه.
ومما تميز به المحدثون في هذه الشروط؛ شرط اتصال السند إلى النبي -ﷺ-، فإذا انقطع صار ضعيفًا، ولو كان الذي سقط هو الصحابي فقط.
وأما عن شرط السلامة من الشذوذ والعلة؛ فمنه نشأ علم دقيق اسمه: [علم العلل]، وهو مختص في مقارنة أحاديث الثقات والتأكد من مواطن الاتفاق والاختلاف ثم ترجيح الأرجح منها.
إن الحاجة إلى إفراد الحديث الصحيح بكتاب يختص وينفرد به دون بقية أنواع الحديث كانت من أهم البواعث التي دعت البخاري إلى تأليف الجامع الصحيح، لا سيما وأن الكتب المؤلفة في الحديث آنذاك كانت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، “كالموطأ” وغيرها، ولعل من أشعل فتيل هذه الفكرة المباركة؛ دعوة رجل له عند شيخه إلى جمعها، كما حكاه البخاري: «كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال رجل: لو جمعتم كتابًا مختصرًا للسنن، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب»[٤].
فكان منهجه في الصحيح أن يكون الحديث متصلًا، وأن يكون رواته عدولًا، وأن يخلو الحديث من العلة، أي: ليس فيه علة قادحة، ولا شاذًّا بأن يخالف راويه الثقة من هو أوثق منه، أو أكثر عددًا منه وأشد ضبطًا.
وأما منهجه في الاتصال؛ فقد اشترط في المعنعن شرطين: وهما اللقاء والمعاصرة.
إن طريق ثبوت اللقاء عند البخاري؛ تدور على التصريح بالسماع في الإسناد، فإذا ثبت السماع عنده في موضع يحكم به سائر المواضع، ومن أجل ذلك كان البخاري يتثبت في الرجال الذين يخرج عنهم، ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه، وأعرفهم بحديثه، ولم تقف ريادة البخاري ومنهجيته عند هذا الحد؛ بل تجلت في مواضع كثيرة من صحيحه: في تراجمه، وتقطيعه للحديث، واختصاره، وإعادته، ومكرراته، وتجريد الصحيح، مما ميَّزه عن غيره[٥].
أما عن المنهج الذي اتَّبعه الإمام مسلم في صحيحه؛ فقد اشترط أولًا: أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ والعلة.
وقد قسّم الرواة في ذلك إلى ثلاث طبقات:
الأولى: طبقة الحفاظ المتقنين.
الثانية: طبقة متوسطي الحفظ والإتقان، وهم أهل أمانة وصدق، ولكن روايتهم تقل درجة عن رواية أهل الطبقة الأولى.
الثالثة: طبقة الضعفاء المتروكين ممن اختلف فيهم أهل العلم بين جرح وتعديل.
وبناء على هذه التقسيمات نجد أن الإمام مسلم قد اعتمد في صحيحه ثلاثة أقسام، كما قسم الرواية إلى ثلاث طبقات، وصنف الأبواب تبعًا لذلك، واعتمد هذا التصنيف في الباب الواحد.
فنجد في الباب ثلاثة أنواع من الروايات:
النوع الأول: رواية الطبقة الأولى من الرواة، وهم الأئمة الحفَّاظ المتقنون، وعليهم اعتمد الإمام مسلم في الاحتجاج على صحة الباب.
النوع الثاني: مما رواه أهل الطبقة الثانية من الرواة، فأورد الإمام مسلم روايتهم استئناسًا وتأصيلًا لما سبق إيراده في القسم الأول من روايات أهل الطبقة الأولى.
النوع الثالث: روايات أهل الطبقة الثالثة من الرجال الضعفاء، ولم يورد الإمام روايتهم إلا لأجل الاستئناس لا الاحتجاج بها.
ومن ذلك نعلم أن منهجية الإمام مسلم في اعتماد صحة الباب؛ ترتكز فقط على روايات الطبقة الأولى من أهل الحفظ والإتقان، يليهم أهل الطبقة الثانية.
ومن هنا نجد أنَّ مساحة الاتفاق بين الإمامين في منهجية تخريج الحديث كبيرة جدًّا، إلا أن لكليهما شروطًا خاصة يتتبعها في التخريج، يقول ابن طاهر: «اعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يُخرجا الحديث المُتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن يكن له إلا راوٍ واحد إذا صح الطريقُ إلى الراوي أخرجاه، إلا أن مسلمًا أخرج أحاديث أقوامٍ ترك البخاري حديثهم، لشبهةٍ وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة، مثل: حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمٰن، وغيرهم»[٦].
وقال ابن رجب: «وأمَّا مسلم؛ فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط، ومن في حفظه بعض شيء، وتكلم فيه لحفظه، لكنه يتحرى في التخريج عنه، ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال إنه مما وهم فيه. وأمَّا البخاري فشرطه أشدّ من ذلك؛ وهو أنّه لا يخرج إلا للثقة الضابط، ولمن ندر وهمه. وإن كان قد اعترض عليه في بعض من خرج عنه»[٧].
ولقد نتج عن ذلك جمع من الأحاديث النبوية التي اتفق على صحتها وإخراجها الإمامان، فكانت عند أهل العلم من أعلى مراتب الحديث احتجاجًا، يليها ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما ولم يخرجاه، ثم ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه، ثم ما كان على شرط مسلم ولم يخرجه، وبعد ذلك ما صح عند غيرها من الأئمة مما لم يكن على شرطهما.
إنَّ هذه الجهود العظيمة التي بذلها الإمامان البخاري ومسلم، لا تخفى على صاحب علم أبدًا، ولا ينكرها إلا جاهل أو جاحد مغرض. وما تيسّر ذكره في هذه السطور ما هو إلا غيض من عظيم فيض!.
وإننا إذ نعلم ذلك تعمق في صدورنا جهود الأئمة المحدثين في حماية الشريعة الإسلامية، وحفظ السنة والذب عنها، وعلمنا مكانة الصحيحين عند أهل السنة، وأن أي معول هدم يتجه نحو الصحيحين لهو قاصد هدم بنيان الشريعة الإسلامية لا محالة، أصرَّح بذلك أم أسرَّ.
فحريٌّ بكل مسلم أن لا يجهل عظيم تلك الجهود التي سهّلت علينا الاقتداء بخير البشر -كما أُمرنا-، بل وحريٌّ به أن يصدَّ سهام المغرضين الطاعنين في تلك الجهود.
[١] الكفاية في علم الرواية ص٣٥.
[٢] أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود (٦٥١٠) – (٣٦٤٦).
[٣] تيسير مصطلح الحديث- د. محمد الطحان ص ٤٤.
[٥] التوضيح لشرح الجامع الصحيح ص٨٤ – ج١.
[٦] شرح الأئمة الستة لابن طاهر.
الكاتب: عائشة المحمدي
المراجعة: أسماء العواودة