الحمدُ للهِ الذي خلقَ فسوَّىٰ، والذِي قدّرَ فهدَىٰ، والصلاةُ والسلامُ علَى مَن جاءَنَا بالهُدَى الذِي يصلحُ بهِ حالُ الدُّنيا، وبهِ بِرحمةِ ربنا نبقَى فِي الجنةِ بإذنهِ أبدًا..
تتعالَى أصواتٌ بِشتَّى المُخادَعاتِ زاعمةً أنَّ الإنسانَ قد صارَ غنيًّا عن ربِّهِ بعدمَا مَلكَ مفاتحَ العلمِ يغزُو الفضاءَ ويبتكرُ ما شاءَ محقّقًا الرفاهيةَ المنشودةَ، فلم يعُدْ بحاجةٍ لِلخالقِ فِي تفسيرِهِ أو تدبيرِهِ ولَا فِي البحثِ عن السعادةِ ولا العبادةِ، ولا الإيمانِ بوجودِ الربِّ سبحانَهُ!
هكَذا زعمُوا وأذاعُوا في الآفاقِ ما قالُوا، وبإذنِ ربِّ العالمينَ نسلّطُ الضَّوءَ علَى حقيقةِ الأمرِ ليتبَيَّنَ لكلِّ إنسانٍ عبوديتُهُ وافتقارُهُ؛ عسَى أنْ نفوزَ بالرضوانِ ونعوذَ بربنَا من الخسارةِ.
وتناولُ الإشكالِ يكونُ بإذنِ اللهِ من خلالِ ثلاثةِ محاورٍ:
- ١- مسألةُ الوجودِ.
- ٢- الغايةُ.
- ٣- هل أغنانَا العلمُ حقًّا؟
وهذا السؤالُ قد يقذفُ به ملحدٌ في وجهِ المؤمنِ، وفي تناولِ تلكَ النقاطِ نُبَينُ بإذنِ اللهِ تعالَى الخللَ في الرؤيةِ، وعدمَ فهمِ الملحدِ للرؤيةِ الإيمانيةِ، ولذلكَ سيكونُ الكلامُ بإذنِ اللهِ منطلِقًا من رؤيةٍ إيمانيّةٍ دونَ تفصيلٍ كبيرٍ فِي براهينِ الإيمانِ، والتي يجدُرُ بسطُهَا في غيرِ هذا الموضعِ، ولكنّها كلماتٌ لِتثبيتِ المؤمنِ وبيانِ عدمِ إحاطةِ الكافرِ برؤيةِ الحقِّ.
أولًا: مسألةُ الوجُودِ:
إنَّ الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ معرِفيّةٌ فِطريّةٌ نفسيّةٌ، لَا يمكنُ لعقلٍ سليمٍ أنْ يفرَّ منْها، واستطاعةَ الإنسانِ تحقيقَ رفاهيَّتِهِ لا تعنِي إنكارَ البديهِيِّ من الأُمورِ، وكأنَّنا ننكرُ وجودَ الشمسِ لأنَّنَا نَزعمُ الاكتفاءَ بالمصابيحِ، فهَل يقولُ بهذا ذُو رأيٍ رشيدٍ؟
ومِن ثمَّ فإنَّ تبريرَ البعضِ لموقفٍ إلحادِيٍّ بِدعوَى تحقيقِ تقدُّمِ الإنسانِ للرفاهيةِ التِي ينشُدُها البشرُ يعدُّ قفزًا حكميًّا يستندُ لِدعوَى فيها انفكاكٌ بينَ مقدمتِها ونتيجتِها، فتقدُّمُ الإنسانِ لَا يعنِي أنَّهُ بِلَا خالقٍ، بَلْ إنَّ ذلكَ العقلَ الإنسانيَّ الذِي يبتكرُ يثيرُ الدهشةَ ويقهرُ القلوبَ لتسبحَ بحمدِ خالقِهَا.
وينبغِي التنبيهُ هُنا إلَى أنَّنا لَا نفصلُ في براهينِ وجودِ اللهِ -وهيَ كثيرةٌ قاطعةٌ- ولكنّنا نُبيِّنُ مغالطةَ الربطِ بينَ تقدُّمِ العلومِ وبين دعوَى الاستغناءِ عنِ الإيمانِ بالخالقِ.
ثانيًا: الغايةُ:
السيرُ معَ هذَا الإشكالِ يستدعِي وقفةً لضبطِ الطريقِ؛ فالغايةُ يحدِّدُها المستشكلُ تعسفًا ومصادرةً بلا برهانٍ، إذ جعلَ الرفاهيةَ والاستمتاعَ غايةَ الوجودِ الإنسانيِّ، ومن لمْ تنضبطُ لديهِ الأصولُ يفقدُ البوصلةَ..
قالَ تعالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر_٣]، فالإنسانُ يتميزُ عنْ غيرِهِ مِنَ الكائناتِ التِي يراهَا إذ تعيشُ تلكَ المخلوقاتُ للغرائزِ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد_١٢]، ولكن يحيا الإنسانُ في ظلالِ الوحيِ وهو يسعَى نحوَ غايةٍ أكبرَ؛ إذ يعلمُ أنَّ للحياةِ معنًى، ولوْ حققَ سعادةً دنيويةً فيظلُّ مفتقرًا لربهِ فِي نيلِ السعادةِ الأبديَّةِ.
ثالثًا: هلْ أغنانَا العلمُ حقًّا؟
لَا يزالُ الإنسانُ مفتقرًا لربِّهِ فِي كلِّ شيءٍ فِي حياتِهِ، وسيظَلُّ كذلكَ مَهمَا تبدَّلتْ الأحوالُ، وذلكَ علَى مستوَى الأخلاقِ والتشريعاتِ والمعاملاتِ والأملِ والسكينةِ وكلِّ شيءٍ، وفِيمَا يلِي بإذنِ اللهِ إيجازٌ لَا يمكنُ أنْ يزعمَ بِهِ الإنسانُ إحاطةً بفضلِ اللهِ ودلالةِ افتقارِنَا إليهِ، فمهما قُلنا فلَنْ نحصِيَ ذلكَ ولَا القليلَ منهُ، قال تعالى: {وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم_٣٤].
١- الأخلاقُ:
رغمَ فطريةِ القيمِ واجتماعِ الناسِ علَى استحسانِ صفاتِ الكمالِ كالعدلِ والحكمةِ والصدقِ واستقباحِ نقيضِهَا إلَّا أنَّ الناسَ ينتكسونَ ويختلفونَ فِي إسقاطِ الحكمِ القِيَمِي علَى تفاصيلِ الأفعالِ التِي يكمُنُ فِيها الشيطانُ، فَقبِلَ الناسُ عريٍّا معلومٌ قبحُهُ بداهةً في أسلافِهِم، وقبلُوا شذوذًا يأنفُ من السماحِ بِه كلُّ عاقِلٌ، وأتاحُوا الزنَا وأباحوهُ، ومَن رفضُوا تعددِ الزوجاتِ لَم يُبالُوا بتعددِ الخليلاتِ، ومؤسساتٌ تضعُ سنًّا للزواجِ لا يسمحُ لإنسانٍ أن يسبقهُ إلَّا بالزّنا لو شاءَ بدعوَى الحريةِ.. فأينَ الحقُّ؟
هُنا يكونُ ضبطُ البوصلةِ، واتجاهُ القلبِ والنظرُ إلَى السماءِ؛ فمَن خلقَ الناسَ أعلمُ بما يُصلِحُهُم، واللهُ يحكمُ بينَ الناسِ فيمَا اختلفُوا فيهِ، فيظلُّ الإنسانُ فِي هذَا الزمانِ السائلِ مفتقرًا لوحيٍ من ربّهِ يضبطُ لهُ الرؤيةَ.
وثمَةَ زاويةٍ أُخرَى تُظهِرُ افتقارَ الناسِ لِربِّهِمْ فِي ضبطِ نظامِهِم القيَمِي، وهيَ زاويةُ المراقبةِ، فمَنْ راقبَ اللهَ زكَتْ نفسُهُ وصارَ لِضميرِهِ سلطانًا يردعُهُ ولَو غابتْ القوانينُ التي يتسابقُ الناسُ في تجاوُزِها عندَ انقِطاعِ كهرباءٍ أو غيابِ كاميراتٍ، ليظلَّ سلطانُ الضميرِ المفتقرِ إلى خشيةِ اللهِ تعالَى هو الأساسُ والمركزُ في استقرارِ المجتمعاتِ وحفظِها مِن بَغيِ أفرادِها علَى بعضِ إن ضعفَت قبضةُ القانونِ، وكثيرًا ما تضعفُ.
٢- التشريعاتُ والمعاملاتُ:
حتَّىٰ يتحققَ العدلُ بِحقٍّ، فَلا بُدَّ لِلمُشرِّعِ أن يكونَ كاملَ العلمِ بالحالِ والمآلِ، وكذلكَ أن يكونَ منزَّهًا عنِ الهوَىٰ، وتحققُ هذَينِ الأمريْنِ غيرُ معقولٍ في الإنسانِ فردًا كانَ أو جماعاتٍ؛ فالعقلُ الجمعيُّ تحكمهُ مَورُوثاتٌ أو ثقافاتٌ غالبةٌ، كما أنّ الإجماعَ الإنسانيَّ يعدُّ معتبَرًا فِي الأُمورِ الفِطريَّةِ لَا فِيما يكونُ بالخبرَةِ الخارجيَّةِ، وعلَى أيِّ حالٍ فلَم يقعْ إجماعٌ علَى تشريعٍ أو نظامٍ لتسييرِ حياةِ الناسِ منذُ وجودِ الإنسانِ حتى الآنَ.
ولكن يبقَىٰ اللهُ ربُّ العالمينَ منزَّهًا عنِ الأهواءِ والتحيُّزاتِ، وهو مَن يعلمُ ما يصلحُ الناسَ مِن تشريعاتٍ تتحققُ بها مصالحُهُم ويقامُ بها العدلُ في الأرضِ، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ} [الملك_١٤]، ولئِنْ بَقيَتِ الأهواءُ فِي التَّطبِيقاتِ، فإنَّ اللهَ يحاسِبُ من زاغَ عنِ الحقِّ، ولكنْ لم يترُكِ اللهُ التشريعَ لِلأهواءِ ولِلنّاسِ وقصورِ علمِهِم، ولَا يزالونَ مُفتقِرينَ لهُ سبحانهُ.
٣- الأملُ والسكينةُ:
مِنَ الأخبارِ الطريفَةِ التِي تداولَتْها وِكالَاتُ الأنباءِ، أنَّ الملحدِينَ فِي الجيشِ الأمريكيِّ يطالبونَ بأن يكونَ لهمْ نصيبٌ مِنَ “سلاحِ الشؤونِ المعنويةِ”، يريدونَ المساواةَ بِزملائهِم المُتديّنِينَ؛ فَيكُون لهُم مرشدينَ أُسوةٌ بِقساوسةِ النصارَى وأحبارِ اليهودِ، فِي لقاءٍ لصحيفةِ النيويورك تايمز معَ أحدِ الملحدينَ فِي الجيشِ الأمريكِيِّ، يقولُ: “إنَّ الإنسانيةَ بالنسبةِ لِلملحدِ لها نفسُ دورِ المسيحيةِ بالنسبةِ للمسيحيِّ واليهوديَّةِ بالنسبةِ لليهوديِّ، إنَّها تجيبُ أسئلةٍ ذاتِ أهميةٍ قصوَى، وتوجّهُ قِيَمَنا”. ¹
لَا يشكُّ أحدٌ فِي أنَّ نتيجةَ الإلحادِ أجوبةٌ يعتقدُها الملحدُ لتجيبهُ عن وجودِه ليُقال: لا معنىً، وعن مصيرِهِ ليُقالُ: إلى الفناءِ، وعن العدلِ ليُقالُ: لَن يوجدَ، فيَعيش الملحدُ حياةً لا يرجُو فِيها تعويضًا لبُؤسٍ أو نُصرةٍ لمظلومٍ، ولِيتساوَى المصلحُ مع المفسدِ، بينَما يعيشُ المؤمنُ وهو يعلمُ أن لحياتِهِ معنًى، وأنّ ثمَةَ دارٌ يُجزَى فيها علَى إحسانِهِ، وأنَّ آلامهُ لهَا تعويضٌ، يعيشُ بأملٍ يورثُه سكينَةً، وكَم من مُنتحِرٍ بسببِ اليأسِ الناتجِ عن فقدانِ الأملِ، ولا أملٌ حقيقيٌّ بدونِ الإيمانِ بالخالقِ!
فِي لوحَةِ الصرخةِ التي رسمَها إدفارت مونك تجسيدٌ لقلقِ الحالةِ الإنسانيّةِ فِي زمانٍ يزعمُ أهلُهُ استغناؤُهُم عنِ الخالقِ بالعلمِ، وقد صدقَ الفنانُ في تجسيدِ ذلكَ القلقِ؛ فبدونِ الخالقِ يكونُ التيهُ والفراغُ الذِي يسعَى الإنسانُ لملئِهِ بفطرتِهِ، وهذَا ما دَعَا الملحدينَ فِي الجَيشِ الأَمريكِيِّ للمطالبَةِ بوجودِ مرشدينَ لهُمْ، فنَفسُ الإنسانِ تخبرُهُ بافتقارِهِ رغمًا عنهُ.
٤- أفعالُ اللهِ فِينا:
لوْ وقفَ كلُّ امرئٍ معَ نفسِهِ فَسيذكُرُ كيفَ أنجاهُ اللهُ مِن مواقفَ ظنَّ أن لَا سبيلَ للخروجِ مِن فِخاخِها، ولكنَّهُ لطفُ اللهِ الذِي يقلِّبُ القُلوبَ ويصرِّفُ الأبصارَ ويُجيبُ الدعواتِ، ويصرفُ عنِ الإنسانِ مرادًا لهُ كانَ فيهِ هلاكُهُ أو ضرَرًا، ويهدِي بفكرةٍ إنسانًا فيضيءُ لهُ دربُهُ، ويقذفُ فِي قلبٍ رُعبًا يصرِفُهُ عنْ أذاهُ أو أذَى غيرِهِ، ولوْ تأملَ كلُّ إنسانٍ ما فاتَ من حياتِهِ لَوجدَ الكثيرَ مِن ذلِكَ، ولَو زعَم غيرَ ذلكَ ففِي أخبارِ الصادقينَ قصصٌ يعجبُ مِنها الإنسانُ إعجَابَا تُخالطُهُ الدهشةُ والفرحةُ والأملُ والعظةُ؛ فلا نزالُ فِي جميعِ خطواتِنا نسألُ اللهَ أنْ يُلهِمَنا رُشدَنا وييسرَ لنَا السبُلَ ويصرفَ عَنا شرًّا نعلمُهُ أَو لَا نعلمُهُ.
.. وختامًا نذكرُ بيقينِ المؤمنِ بافتقارِهِ، وجهلِ الملحدِ بطبيعةِ إيمانِ المؤمنِ فضلًا عنْ مُكابرَتِهِ إذْ يوقنُ في نفسِهِ بِهذَا الافتقارِ ويعايشُهُ لكنَّهُ يحاوِلُ قمعَهُ زاعِمًا الغِنَى المُطلَق فِي وقتٍ زادَ فيهِ البؤسُ وانتشرَتْ فِي ظلالِ الرؤيةِ النتشويةِ متاهاتُ النسبِيَّةِ، فلمْ يهتدِ الإنسانُ السبيلَ ثُمَّ يزعمْ خلافَ ذلكَ، وتعالَى ربُّ العالمينَ إذْ قالَ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ} [العلق _ ٦ : ٨].
والحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ
……..
¹ – الإلحادُ، وثوقيةُ التوهُّمِ وخَواءُ العدمِ | حسام الدين حامد، صفحة 292.
الكاتب: علي جلال
القراءة الصوتية: محمد ريان